بقلم محرر شؤون الاقتصاد: مصطفى عزيز الهامل
بقلم محرر شؤون الاقتصاد: مصطفى عزيز الهامل

مقالات مشابهة

تحليل اقتصادي

ارتفاع قياسي في أسعار الذهب بسبب فشل واشنطن في إنهاء الإغلاق الحكومي

بقلم محرر شؤون الاقتصاد: مصطفى عزيز الهامل
بقلم محرر شؤون الاقتصاد: مصطفى عزيز الهامل

يتابع العالم بقلقٍ متزايد حالة الشلل السياسي في واشنطن، وتتوالى الارتدادات الاقتصادية لتلك الأزمة العميقة، لتظهر بوضوح في صعود الذهب إلى مستويات قياسية غير مسبوقة. فالإغلاق الحكومي الفيدرالي الذي دخل أسبوعه الثاني دون حلّ، لم يعد مجرد خلافٍ بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل تحوّل إلى اختبار حقيقي لصلابة الاقتصاد الأمريكي وقدرته على الصمود أمام التوترات السياسية المتكررة. وفي ظل تراجع الثقة بالأسواق، واتساع الفجوة بين المؤسسات السياسية، يستعيد الذهب دوره التاريخي كملاذٍ آمن، بينما تتقلّب مؤشرات الدولار والفائدة وأسواق المال في مشهد يعكس هشاشة التوازن داخل أكبر اقتصاد في العالم.

شلل فيدرالي يربك الأسواق

دخلت الولايات المتحدة أسبوعها الثاني من الإغلاق الحكومي الفيدرالي دون بارقة أمل في التوصل إلى اتفاق داخل الكونغرس. فشلُ تمرير مشروع قانون تمويل الحكومة للسنة المالية 2026 تسبب في شللٍ واسع أصاب مؤسسات الدولة الفيدرالية بالجمود، وترك الأسواق المالية في حالة ترقّب وقلق متزايد.

في الأفق، ينتظر المستثمرون والجمهور الأمريكي جولة جديدة من المفاوضات بين الجمهوريين والديمقراطيين، علّها تُنهي هذا المأزق السياسي الذي يهدد بتعميق أزمة الثقة في الاقتصاد الأمريكي. وإذا استمر الجمود، قد يُضطر الكونغرس إلى إقرار تمويل مؤقت أو إجراءات طارئة لتفادي انهيار جزئي في الأداء الحكومي.

جذور الأزمة السياسية والمالية

يتجذّر الإغلاق الحالي في سلسلة من الخلافات البنيوية داخل الكونغرس، يمكن تلخيصها في أربع نقاط رئيسية:

  1. تمويل الرعاية الصحية: يتمسك الديمقراطيون بتمديد إعانات التأمين الصحي ضمن قانون الرعاية بأسعار معقولة (ACA)، بينما يرى الجمهوريون أن تلك الإعانات تثقل الموازنة وتعمّق العجز.
  2. مستويات الإنفاق الفيدرالي: الجمهوريون يدعون إلى تقليص النفقات العامة، مقابل مطالبة الديمقراطيين بزيادة التمويل لبرامج اجتماعية وتعليمية.
  3. القيود الإدارية على الإنفاق: فرضت الإدارة الأمريكية قيودًا على بعض الولايات ذات الأغلبية الديمقراطية، ما زاد من حدّة الاستقطاب.
  4. أساليب تفاوض غير تقليدية: تبادل الطرفان الاتهامات باستخدام أدوات رقمية ساخرة أو حتى “مقاطع مزيّفة” في حرب إعلامية بدلاً من التفاوض الجاد.

هذا المناخ المشحون جعل الإغلاق أكثر من أزمة مالية مؤقتة. إنه مرآة لأزمة حكم عميقة تهزّ مؤسسات أكبر اقتصاد في العالم.

التداعيات الاقتصادية والسياسية

تداعيات الإغلاق تتجاوز واشنطن إلى الأسواق العالمية.

  • اقتصاديًا: تراجع التوظيف وارتفاع التضخم وتزايد العجز المالي، مع مؤشرات على تباطؤ في الاستهلاك الداخلي.
  • خدماتيًا: توقفت مؤسسات في مجالات التعليم والصحة والبحث العلمي، مما أثر مباشرة على حياة ملايين الأمريكيين.
  • سياسيًا: عمّق الإغلاق الهوة بين الحزبين، وأضعف ثقة المواطنين في قدرتهم على التوافق.
  • وظيفيًا: الإدارة الأمريكية لوّحت بإجراءات تقشفية قد تشمل تسريح آلاف الموظفين الفيدراليين إذا استمر الشلل.

سياسة نقدية تائهة في مهبّ عاصفة السياسة

في مواجهة هذه الأزمة، بدأ مجلس الاحتياطي الفيدرالي يتحدث بلغة القلق. فقد لمح إلى خفض إضافي في أسعار الفائدة، مستندًا إلى تراجع النشاط الاقتصادي وتأثير السياسات الحكومية. وبحسب أداة CME FedWatch، يتوقع المستثمرون خفضًا بمقدار 25 نقطة أساس في أكتوبر وديسمبر بنسبة احتمالية بلغت 95% و83% على التوالي.

ومع انخفاض الفائدة وتزايد عدم اليقين، يتحوّل الذهب إلى الملاذ الأكثر أمانًا، إذ يبتعد المستثمرون عن الأصول الدولارية، ويقبلون على المعدن الأصفر الذي يحتفظ بقيمته في الأزمات.

هشاشة التوازن في قلب الاقتصاد الأمريكي

في الأول من أكتوبر 2025، دخلت الولايات المتحدة رسميًا حالة شلل فيدرالي بعد فشل الكونغرس في تمرير الموازنة الجديدة أو رفع سقف الدين العام. هذا الإغلاق هو الأول منذ سبع سنوات، ويعيد إلى الأذهان أطول إغلاق في التاريخ الأمريكي (35 يومًا). لكن هذه المرة، يتخذ الإغلاق أبعادًا أكثر خطورة، إذ يعكس تآكل التفاهم المؤسسي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويكشف هشاشة التوازنات السياسية والمالية في النظام الأمريكي. الأزمة لم تبقَ داخل الحدود الأمريكية، بل بدأت موجات قلق تضرب الأسواق الآسيوية والأوروبية التي تعتمد على استقرار الدولار كمرجعية نقدية.

الذهب يلمع أكثر في زمن العواصف

في ظل هذه العاصفة السياسية، صعدت العقود الآجلة للذهب المقررة للتسليم في ديسمبر بنسبة 1% إلى 3947 دولارًا للأونصة، مقتربة من عتبة 4000 دولار — وهو مستوى قياسي تاريخي.

الطلب المتزايد على الذهب، باعتباره ملاذًا آمناً، جاء مدفوعًا بجملة عوامل:

  • استمرار الإغلاق الحكومي.
  • احتمالات خفض الفائدة الأمريكية.
  • ضعف الدولار.
  • مشتريات البنوك المركزية وصناديق الاستثمار المدعومة بالذهب.

النتيجة: الذهب ارتفع بنحو 49% منذ بداية 2025 بعد زيادة بلغت 27% في 2024، ما يجعله أكثر الأصول ربحية في عام الأزمة.

تراجع الثقة وصعود البدائل

الإغلاق الحكومي الأمريكي ليس مجرد أزمة مالية عابرة، بل علامة على تصدّع النموذج الاقتصادي والسياسي الأمريكي الذي لطالما شكل مرجعية عالمية. وفي مقابل هذا الاضطراب، يستعيد الذهب — هذا المعدن العتيق — مكانته بوصفه لغة الثقة الأخيرة حين تسكت المؤسسات وتضطرب الأسواق. الذهب اليوم لا يلمع فحسب في الأسواق، بل في الخيال الجمعي للمستثمرين الذين يبحثون عن يقينٍ في زمنٍ يتآكل فيه الاستقرار.