أجرت الحوار مارتين غوزلان
أجرت الحوار مارتين غوزلان

مقالات مشابهة

حوار

عالم الاقتصاد الفرنسي كريستيان سانت إتيان: “ترامب يُسرّع من وتيرة الانهيار الاستراتيجي لأوروبا”

أجرت الحوار مارتين غوزلان
أجرت الحوار مارتين غوزلان

في أحدث كتاب له بعنوان “ترامب ونحن: كيف نُنقذ فرنسا وأوروبا” (منشورات أوديل جاكوب)، يطلق عالم الاقتصاد الفرنسي كريستيان سانت إتيان جرس الإنذار، متسائلا: كيف ينبغي لنا أن نرد على الرئيس الأميركي، الذي يصفه بأنه “إمبراطور بلا حدود”؟
في الحوار التالي يقدّم تشخيصاً صارما لحالة الخضوع الأوروبي تجاه الولايات المتحدة، ويحدّد بعض المسارات الممكنة للخروج من هذا الوضع.

تقول في كتابك إن مشروع دونالد ترامب لا يهدف إلى التعاون مع الدول الأخرى، بل إلى تحويلها إلى دول تابعة أو خاضعة. ما هي المخاطر الكامنة وراء هذا النهج؟

كريستيان سانت إيتيان : يجب أن نفهم أن الولايات المتحدة الأمريكية، منذ العام 1945، أنشأت نظاماً نقدياً وسياسياً واقتصادياً دولياً مستقراً نسبياً. هذا النظام، المبني على مفهوم سيادة القانون؛ والذي استفادت منه الولايات المتحدة بدرجة كبيرة؛ كان مع ذلك منفتحاً؛ وسمح للدول التي تنتهج سياسات متماسكة بالتطور بسرعة.

إن وصول ترامب إلى الحكم كان بمثابة تسونامي اجتاح النظام الدولي الذي استمر من العام 1945 حتى 2016، وهو العام الذي انتُخب فيه لولايته الأولى. خلال تلك الولاية، هاجم ذلك النظام جزئياً فقط. لكن منذ عودته إلى السلطة في العام 2025، أصبح يُهاجمه على كل الجبهات. فمن وجهة نظره، يرى ترامب أن هذا النظام يضرّ بالولايات المتحدة. وهذا خطأ جوهري، إذ إن أمريكا تستفيد بشكل هائل من مكانة الدولار، كما أنها تحظى بمزايا أخرى من حيث النفوذ الاقتصادي.

لكن بالنسبة لترامب، كل ذلك أصبح من الماضي، فهو يريد نظاماً إمبراطورياً تُهيمن فيه الولايات المتحدة على كامل محيطها المباشر؛ أي الأمريكيتين من جهة، وأوروبا من جهة أخرى، ويريد فرض قانونه على روسيا والصين. هذا النظام الإمبراطوري الوهمي يهدف إلى تمكين الرئيس من وضع يده على كندا، وغرينلاند، وقناة بنما، وغير ذلك.

أما الاتحاد الأوروبي، فقد شيّد بدوره نظاماً قائماً على سيادة القانون، لكنه ظل فرعاً من النظام الأمريكي. وعندما يُفجّر الزعيم الأمريكي ذلك النظام، فإن ذلك يؤدي حتماً إلى زعزعة كاملة للاتحاد الأوروبي؛ لا سيما وأن هذا الأخير، ومنذ نحو عشرين عاماً، يتبنى سياسات تهدف إلى تعميق مفهوم سيادة القانون الدولي في المجالات البيئية والتجارية.

الاتحاد الأوروبي فوجئ بما حدث، وهو عاجز عن القيام بثورة تُتيح له تبني أدوات النظام الإمبراطوري الجديد، إذ إن معاهدة روما تحظر اعتماد منطق القوة السياسية أو مبدأ القوة فوق القانون. ونع ذلك، فقد خضع الأوروبيون لترامب في الاجتماع الذي عُقد في إسكتلندا، والذي أسفر عن إملاءات فرضت رسوماً جمركية على الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى التزامات عبثية بشراء الأسلحة والبضائع الأمريكية بمئات المليارات من اليورو.

هل يمكن اعتبار هذا بمثابة غرق لأوروبا؟

– إنه انهيار استراتيجي، فالاتحاد الأوروبي أشبه بسفينة بلا عارضة ولا دفة. حتى وإن كانت المفوضية الأوروبية تحلم بأن تصبح دولة فيدرالية، فإنها لا تمتلك القدرة السياسية لتحقيق ذلك. وهذا الوضع سوف يؤدي إلى تداعيات جسيمة في السنوات المقبلة. لكن، هل سيصمد ترامب؟ أم هل يفقد جزءاً من نفوذه في انتخابات منتصف الولاية في نوفمبر 2026؟ في مطلق الأحوال، إن الاتحاد الأوروبي بات مُنهكاً وضعيفاً على جميع الأصعدة.

هل يدرك الأوروبيون هذا الأمر؟ وهل هناك بوادر ردود فعل تُعيد لقارتهم الشاسعة مكانتها في السباق؟

– إن ألمانيا وإيطاليا تدركان ذلك، لكنهما، لأسباب تاريخية، لا ترغبان في الاعتراف به. إن الألمان ما زالوا يُعلّقون آمالهم على الحماية العسكرية الأمريكية، وكذلك الحال بالنسبة لإيطاليا. أما فرنسا فهي أكثر وعياً بالوضع، لكنها فقدت الزعامة التي كانت تملكها في القرن الماضي، بسبب ضعفها الصناعي وتدهور أوضاعها المالية العامة. وعلاوة على ذلك، فإن المفوضية الأوروبية تبذل قصارى جهدها لإنكار الواقع الواضح، لأن الاعتراف به يعني نهاية نفوذها.

السؤال المطروح الآن، كيف يمكننا أن نردّ؟ نحن ننطلق من نقطة ضعف شديدة، فقد أظهر “تقرير دراغي” (تقرير أعدّه رئيس الحكومة الإيطالي السابق ماريو دراغي بتكليف من الاتحاد الأوروبي) أننا فوّتنا الثورة الصناعية الرقمية الجديدة. لقد أصبحنا مستعمرة رقمية لأمريكا. وعلاوة على ذلك، فإن المفوضية الأوروبية تعمل كبيروقراطية اقتصادية، لا كهيئة تضع استراتيجيات وتنفذها. ولكي ننهض من جديد، نحتاج إلى تحوّل مزدوج في هذا الشأن.

أولاً، يجب إعادة تعريف دور المفوضية الأوروبية كما ورد في معاهدة روما، والتي صيغت في شتاء 1956–1957، في عالم كان مختلفاً تماماً. ومن هذا المنطلق، ينبغي أن تتحول المفوضية إلى أمانة سياسية للمجلس الأوروبي. إن رؤساء الدول والحكومات هم من يجب أن يستعيدوا زمام القيادة بالفعل.

ثانياً، يجب أن نذهب أبعد من ذلك عبر تغيير المؤسسات نفسها وآليات اتخاذ القرار داخلها. ويجب أن نتخلى عن قاعدة الإجماع، ونستبدلها بقاعجة ثلاثية المعايير لاتخاذ القرارات في شأن الخيارات الاستراتيجية.

وأخيراً، ينبغي أن نُتيح للمجلس الأوروبي انتخاب لجنة توجيهية مكوّنة من سبعة رؤساء دول وحكومات من بين أعضائه. ويمكن انتخاب هذه اللجنة لمدة قابلة للتجديد من 12 أو 18 شهراً. بالتالي، ستكون أكثر مرونة في اتخاذ القرارات مقارنةً بالهيكل الحالي المُرهق الذي يتطلب اجتماع جميع الدول السبع والعشرين. على أن تكون فرنسا وألمانيا وإيطاليا جزءاً إلزامياً من هذه اللجنة، بينما تتناوب الدول الأربع الأخرى بانتظام.

باختصار، نحن بحاجة إلى تنظيم أكثر مرونة بكثير، يتيح اتخاذ قرارات أسرع في مجالات مثل التكنولوجيا الحيوية والفضاء والتقنيات الرقمية.

أنت تدعو إلى ثورة أوروبية حقيقية!

– بلا شك! علاوة على ذلك، أدعو إلى إنشاء اتحاد دول؛ أو حتى تكتّل تعاوني يضم سبع أو ثماني دول؛ وذلك لتنفيذ سياسات حكومية هجومية تهدف إلى تسريع إعادة تطوير تقنيات دفاعية جديدة تُشكّل شرطاً لسيادة أوروبا. فقط في ظل هذه الشروط يمكننا أن نمتلك مجدّداً الأدوات اللازمة للردّ على الولايات المتحدة والصين وروسيا.

في هذا السياق، ما هي مقترحاتك لإنقاذ فرنسا؟

– دور بلدنا أساسي. فرنسا هي التي صنعت الاتحاد الأوروبي. لقد مدّت يدها إلى ألمانيا في وقت مبكر جداً من العام 1950؛ أي بعد خمس سنوات فقط من نهاية الحرب العالمية المروّعة والاحتلال النازي. يجب أن نتذكر أن بطاقات تقنين الغذاء كانت لا تزال موجودة في فرنسا حتى العام 1949! إنها لبادرة مذهلة على المستويات السياسية والأخلاقية والروحية. ولكي ندرك مدى عمق هذه البادرة، يكفي أن ننظر إلى العلاقات بين الجزائر وفرنسا، بعد مرور ستين عاماً على نهاية حرب الجزائر: الجزائريون لا يزالون يحملون مشاعر جرحٍ لم يلتئم، بينما تمكّنا نحن من مدّ اليد للألمان بسرعة كبيرة! في هذا السياق، حافظت فرنسا على دور محوري حتى العام 2000، بل حتى 2010؛ إذ لعب الرئيس نيكولا ساركوزي دوراً مهماً في أزمة العام 2008، في حين استغرقت أنغيلا ميركل وقتاً طويلاً لفهم ما كان يحدث.

لكن بعد ذلك، بدأت فرنسا تدفع ثمن قرارات اتُخذت في وقت أبكر. ففي تسعينيات القرن الماضي، ترسّخت فكرة كارثية مفادها أننا ندخل في عالم ما بعد الصناعة، وعالم ما بعد العمل، في الوقت نفسه الذي كانت فيه الثورة الرقمية تنطلق بقوة في أماكن أخرى. وتجمّدنا في مكاننا بينما تسارعت وتيرة الآخرين. فأصبحنا أكبر دولة في العالم تشهد تراجعاً حاداً في القطاع الصناعي، مع عجز تجاري هائل، وخسارة فادحة في الوظائف والإيرادات. إن القطاع الصناعي في فرنسا لا يشكّل سوى 9.5% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يبلغ متوسطه في الاتحاد الأوروبي 14.5%، لذلك نحن متأخرون بخمس نقاط كاملة عن المتوسط الأوروبي. أما ألمانيا، فهي عند 18%؛ أي ضعف ما نحن عليه. ومن دون صناعة، لا توجد صادرات…

من موقع بهذا الضعف، كيف يمكن التحدّث بشكل ندّي مع الإمبراطور متقلب الأطوار الذي يُجسّده دونالد ترامب؟

– الوصف دقيق تماماً! ففي منطقه الإمبريالي، لا يعترف دونالد ترامب إلا بمنطق القوة. إن انبطاح أوروبا له في اسكتلندا يُمثل كارثة استراتيجية ذات عواقب وخيمة. فهل سنتمكّن من التفاوض لاحقاً مع الصين وروسيا، بعدما شاهدونا نخضع تماماً للولايات المتحدة؟ يجب على أورسولا فون دير لاين أن تتنحى، لأنها تُجسّد إذلال أوروبا. كان ينبغي لنا الرد بفرض ضرائب باهظة على صادرات خدمات تكنولوجيا المعلومات الأمريكية إلى أوروبا. فشركات التكنولوجيا الكبرى التي يُصغي إليها ترامب، كانت ستشعر بالقلق حينها. لكن أمام هذا الإذلال الأوروبي، نتيجة السلبية المفرطة للمفوّضة الأوروبية، لم تتدخل هذه الشركات في 27 يوليو/ تموز 2025، اليوم الأسود لإملاءات دونالد ترامب في اسكتلندا.

الأمر لم ينتهِ بعد، فالاتفاق لا يزال بحاجة إلى تصويت في البرلمان الأوروبي. في الحالة المثالية، يجب ألا يتم تمريره. لكن للأسف، من غير المُرجّح أن تظهر مقاومة حقيقية. ففرنسا، عندما مارست القيادة، تصرّفت لصالح أوروبا. أما ألمانيا اليوم، فتمارسها لصالح نفسها فقط. وقد رأينا ذلك في 27 يوليو/ تموز: مستشارو السيدة فون دير لاين في المفاوضات كانوا جميعاً ألماناً. لقد مثّلوا مصالح الصناعة الألمانية، التي كانت ترغب بشدة في خفض الرسوم الجمركية على صادرات السيارات إلى أمريكا.

قبل صدور إملاءات ترامب في 27 يوليو/ تموز، كان من الممكن اتباع نهج مختلف. لكن فرنسا كانت غائبة تماماً عن المشهد. في تلك الفترة، كان إيمانويل ماكرون مُنشغلاً بالكامل بملف فلسطين؛ موضوعه الأهم؛ ولم يُبدِ أي اهتمام بذلك الاجتماع المصيري. لا شك أن الأمور كانت ستختلف على الأرجح لو تنقّل ماكرون إلى اسكتلندا برفقة المستشار الألماني فريدريش ميرز ورئيسة  الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني. كان وجودهم سيحمل ثقلا مختلفاً في مواجهة ترامب. لكننا تركنا فون دير لاين تتفاوض وحدها، بجدول أعمال ألماني! اليوم، علينا أن نجرؤ على المقاومة، لأن ترامب لا يعرف حدوداً.

سيرة موجزة

كريستيان سانت إتيان، عالم اقتصادي وأكاديمي فرنسي

– يدرّس الاقتصاد الصناعي في المعهد الوطني الفرنسي للفنون والمهن.

– نشر العديد من الأبحاث والمؤلفات التي تناولت سُبل إخراج فرنسا وأوروبا من أزماتهما الحالية.

– من كتابه “نهوض فرنسا” (منشورات أوديل جاكوب، 2016) إلى “ترامب ونحن” (أوديل جاكوب، 2025)، يرسم سانت إتيان صورة واضحة وواقعية للاخفاقات الأوروبية التي يستغل!ل نزيل البيت الأبيض حاليا كمَواطِن ضعف لفرض هيمنته على حلفائه الأوروبيين.