نجحت قمة شرم الشيخ للسلام، التي انعقدت مطلع الأسبوع الجاري، في تحويل هُدنة هشة إلى إطار دولي مُنسَّق، وفتحت نافذة لإعادة الإعمار وللتفاوض المرحلي، وأن كانت لا تتضمّن حلاً نهائياً. غير أن غياب تفاصيل حاسمة، وتغطية شرعية محلية من إسرائيل وحركة حماس، فضلا عن تشكيك نشطاء ودوائر حقوقية، كبلها عوامل تجعل مصداقية وطول أمد أي اتفاق مرهونين بسرعة التنفيذ وشفافية التمويل وتوفّر ضمانات أمنية قابلة للقياس.
انتهت قمة شرم الشيخ بتوقيع إعلان مشترك من الولايات المتحدة ومصر وقطر وتركيا، بدعم واسع من دول عربية وغربية، ما أكسبها أهمية رمزية ودبلوماسية كبيرة، إذ شارك فيها أكثر من عشرين زعيماً وقائداً عالمياً وإقليمياً، وسط حفاوة إعلامية وسياسية كبيرة، بهدف تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وتبني خطة أمريكية لإدارة مرحلة ما بعد الحرب، تعتبرها إدارة الرئيس ترامب خارطة طريق مؤقتة للحكم والأمن وإعادة الإعمار.
بموجب الاتفاق أطلقت حماس سراح الرهائن الأحياء الذين كانوا محتجزين في قطاع غزة، ورفاة 4 منهم، مقابل إفراج إسرائيل عن نحو 2000 معتقل فلسطيني.
شكّلت القمة خطوة مُهمّة، لكن المسار يبقى طويلا على درب إقرار سلام عادل ومستدام، في ظل عقبات تاريخية وسياسية لم يتم تجاوزها منذ عقود، خصوصاً فيما يتعلق بملفات القدس واللاجئين ومستقبل المستوطنات.
دور اللاعبين الإقليميين والدوليين
لعب ترامب دور المُوجّه الرئيسي للخطة الأمريكية، والضامن الرمزي للهدنة، مُسهماً في خلق توازن دبلوماسي بين الأطراف الإقليمية والدولية، لكنه لم يمتلك السيطرة المباشرة على الأرض، وبالتالي يبقى نجاح أي بند من خطته مرهوناً بالتعاون المحلي والإقليمي.
من جهتها، ساهمت دول مجلس التعاون الخليجي في إضفاء غطاء عربي سياسي ومالي على القمة، وجعلت من شرم الشيخ منصّة جماعية لتثبيت الهدنة وبدء مرحلة إعادة الإعمار، مع توازن دقيق بين الدعم الإنساني والوساطة السياسية.
في السياق ذاته، كان هدف أوروبا من هذا الاتفاق الحفاظ على الاستقرار الإقليم، ومنع موجات نزوح جديدة من المهجّرين نحوها. وذلك عبر دعم مالي وإنساني كبير، وضغط دبلوماسي حثيث لتضمين الحل النهائي بُعداً سياسياً يضمن إقامة دولة فلسطينية مستقبلية. وتمثًّل التحدي الرئيس أمام الأوروبيين في تنسيق المواقف مع واشنطن من جهة، ومع الحكومات العربية من جهة أخرى، لتجنب تهميش دور القوى العربية في إدارة الملف.
السيناريوهات المستقبلية
يمكن رسم سيناريوهين محتملين بعد القمة:
- سيناريو تفاؤلي: تطبيق مرحلي متَّسق يَشمل تبادلاً للأسرى، وانسحاباً إسرائيلياً محدوداً، ودخول مساعدات كبيرة، وإطلاق مؤتمر دولي لإعادة الإعمار بقيادة الرباعي الضامن، ما يُمهِّد لمرحلة سياسية أوسع باتفاقيات جزئية.
- سيناريو مُتحفِّظ: عبارة عن تنفيذ جزئي مؤقت مع تنازعات على نقاط أمنية وسياسية، مع إمكانية تجدّد التوترات المحلية التي قد تُعيد إشعال دوّامة العنف خلال أشهر، إذا لم تُحل ملفات الحوكمة والسلطة في غزة.
في هذا الإطار لا بد من إلقاء الضوء على التحديات العملية المتعلقة بآليات التفويض والشرعية المحلية، ومن سيسهر على تطبيق الأمن؟ وهل ستكون هناك قوات دولية أم عربية؟ وما موقف إسرائيل القانوني إذا طُلب منها الانسحاب أو توقيع التزامات؟ أضف إلى ذلك مسألة التمويل والرقابة على إعادة الإعمار، إذ إن التبرّعات الدولية قد تواجه عراقيل سياسية ومالية، وإدارة المراقبة والشفافية ستكون حاسمة لتفادي الفساد أو إعادة ترسيخ بنية استبدادية أو شبكات محلية غير متعاونة.
الدور الإسلامي
لطالما شكّلت الدول الإسلامية أحد أهم الأركان الداعمة للمسار السياسي، من خلال صبغة شرعية دينية وسياسية على الجهود العربية والدولية، أسهمت في تقريب المواقف بين الكتل العربية والآسيوية.
وعلى الرغم من تباين المواقف بين الدول، البراغماتية منها والسياسية والمتشددة، فقد أظهر اجتماع القمة توافقاً عاماً على دعم الهدنة والإغاثة والحل السياسي العادل، بينما يبقى التحدي الأكبر الانتقال من بيانات الدعم إلى آليات تنفيذية فعّالة على الأرض.
التزام حماس وإسرائيل ودور السلطة الفلسطينية
لم تشارك حركة حماس رسمياً في القمة، لكنها كانت على تواصل غير مباشر عبر الوسيطين القطري والمصري، حيث رحّبت بجهود وقف العدوان، لكنها تحفّظت على أي ترتيبات أمنية تمسّ سيطرتها الميدانية.
بمعنى آخر، قبلت بالنتائج الإنسانية والسياسية العامة، لكنها لم تمنح تفويضاً كاملاً لتنفيذ كل بنود الخطة الأمريكية – المصرية.
أما إسرائيل، فغابت عن القمة سياسياً لكنها كانت حاضرة كعامل تعطيل ميداني. غيابها منح العرب والأوروبيين مساحة لتشكيل توازن جديد في الخطاب، أما التنفيذ فيبقى رهناً بقبولها لاحقاً. هذا الوضع يسمح بتقارب عربي – إسلامي نادر تجلّى في التوافق السعودي – المصري – القطري على خطوط عامة تشمل وقف إطلاق النار والإغاثة، وحلّاً سياسياً في وقت لاحق.
وفيما يتعلق بموقف السلطة الفلسطينية، شارك الرئيس محمود عباس في القمة في محاولة لإعادة الاعتراف بالسلطة كطرف فلسطيني شرعي. لكن حضوره كان رمزيّاً أكثر منه تفاوضياً، لافتقار السلطة إلى النفوذ الفعلي على الأرض في غزة منذ العام 2007. لتعيد القمة حضور السلطة دبلوماسياً، وتمنحها وعوداً بتمويل مشاريع بإشرافها في الضفة الغربية وربما في غزة، لكنها ستبقى لاعباً ثانوياً ما لم تتحقق المصالحة الفلسطينية الداخلية.
نقاط القوة والضعف
تتمثل نقاط قوة اتفاق شرم الشيخ في تحويل وقف إطلاق النار إلى إطار توافقي دولي، بمشاركة قطر وتركيا ومصر كضامنين، والتركيز على إعادة الإعمار وتمكين العمل الإنساني، وإعادة تحريك الدور العربي والإسلامي في إدارة الأزمة.
أما نقاط الضعف، فتشمل غياب إسرائيل وحماس عن طاولة المفاوضات بصورة متوازنة، مع انتقادات حقوقية وشعبية، وسط غموض يلفّ تفاصيل في مسائل حساسة مثل الحدود، القدس، واللاجئين، إضافة إلى غياب آليات واضحة لمتابعة ومراقبة تنفيذ الاتفاق.
من المُرجّح أن يُرسّخ الاتفاق الأخير هدنة طويلة الأمد، ويفتح باباً للتسوية المرحلية، لكنه لن يحقق سلاماً شاملاً ما لم تُحل البنية العميقة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ويتم التوصل إلى مصالحة فلسطينية داخلية حقيقية، مع مشاركة كاملة وشرعية لكل الأطراف على الأرض.
قمة شرم الشيخ تشكِّل خطوة مُهم!ة في مسار طويل. لكنها ليست نقطة النهاية، بل هي محطة تكتيكية في سباق مستمر لإقرار سلام عادل ومستدام في الشرق الأوسط، يتطلب صبراً ودبلوماسية نشطة وضمانات واضحة للتنفيذ على الأرض.
وتبقى مسألة إعادة إعمار غزة، في إطار قمة شرم الشيخ، خطوة رمزية وعملية بالغة الأهمية لإنهاء الأزمة الإنسانية، لكنها مرتبطة تماماً بالسلام المرحلي واستقرار الوضع الأمني. ومن دون ضمانات تنفيذية واضحة وموافقة جميع الأطراف (حماس، إسرائيل، السلطة الفلسطينية)، سيظلّ ملف الإعمار محفوفاً بالمخاطر والتأخير.
وقد تعهّدت دول عدة، في هذا الإطار، بتقديم مساعدات مالية كبيرة، وأبرزها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، مع إشراف قطري – تركي. لكن التحدّي الأبرز يكمن في ضمان وصول الأموال للمستفيدين مباشرة من دون أن تسيطر أو تستولي عليها شبكات محلية مرتبطة بحماس أو فصائل متشددة أخرى، ما يستدعي آليات رقابة صارمة.












