تحليل سياسي

انحسار النفوذ الإيراني إقليمياً.. من مشروع التمدد إلى معركة البقاء

بقلم يوسف موسى
بقلم يوسف موسى

تشهد إيران مرحلة غير مسبوقة من التراجع الإقليمي بعد سلسلة من الانتكاسات التي ضربت أذرعها في المنطقة العربية، من هزيمة حركة “حماس” في غزة، إلى تداعيات سقوط النظام السوري الذي كان يشكّل العمود الفقري لـ”الهلال الشيعي”. لتجد طهران نفسها اليوم أمام عملية إعادة تموضع قسرية: من موقع القوة المتوسعة إلى الدولة المُحاصَرة التي تُدير نُفوذها عبر الوكلاء بدل الجيوش.

في العام 2015، أثار وزير الاستخبارات الإيراني السابق في حكومة محمود أحمدي نجاد، حيدر مصلحي، جدلاً واسعاً عندما صرَح بأن إيران تسيطر فعلاً على أربع عواصم عربية، وهي: بغداد، دمشق، بيروت، وصنعاء. هذا التصريح جاء بعد سيطرة جماعة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر 2014.

زلزال غزة

شكّلت هزيمة “حماس” ضربة استراتيجية مُباشرة لطهران، إذ فقدت أهم واجهة سُنّية في مشروعها الإقليمي التي كانت تمنحها مظهراً عابراً للطوائف ومتنفّساً في الشارع العربي. وسُقوط غزة عسكرياً، يعني فُقدان إيران منصة ضغط فعالة على إسرائيل من دون الدخول في حرب مباشرة، وانهيار شبكات التسليح والتمويل التي استثمرت فيها مليارات الدولارات. كما سقط خطاب “المقاومة المُنتصرة” الذي رَوّجت له طهران لعقود، وتراجعت جاذبيتها في العالم الإسلامي بعد انكشاف الطابع الطائفي لتحالفاتها.

الداخل الإيراني بدوره بدأ يغلي، وازدادت تساؤلات الشارع عن جدوى تمويل الحركات الخارجية وسط أزمة اقتصادية خانقة، فيما تستفيد إسرائيل من المشهد لتكثيف ضرباتها ضد أذرع طهران في لبنان وسوريا.

تحولات موازين الإقليم

التراجع الإيراني فتح الباب أمام تحالفات جديدة: تركيا تتجه لملء الفراغ شمال سوريا، والدول العربية (الخليج، مصر، والأردن) تسعى لإعادة سوريا إلى الحاضنة العربية وتحجيم الوجود الإيراني. أما إسرائيل، فتكثّف عملياتها لمنع أي إعادة تموضع لطهران في الجبهة الشمالية.

نعم، لم يسقط المشروع الإيراني بالكامل، لكنه فقد القدرة على المبادرة. وتحوّلت طهران من قوة تمدد هُجومية إلى قوة دفاعية مُحاصَرة تحاول الحفاظ على ما تبقّى من نُفوذها وسط بيئة إقليمية ودولية تُعيد رسم خرائط القوة في الشرق الأوسط.

تآكل الأذرع

في لبنان، يُواجه حزب الله عُزلة سياسية مُتصاعدة وسط أزمة اقتصادية وضغوط داخلية لنزع سلاحه. وفي العراق، تتزايد النقمة على الميليشيات الموالية لطهران، ما دفع بغداد إلى تقليص نفوذ الحشد الشعبي. أما في اليمن، فيُواجه الحوثيون مأزقاً مُمتداً مع تراجع الدعم المالي والتقني الإيراني. وبخصوص فلسطين، تراجعت قُدرة الفصائل الموالية لإيران على التأثير بعد انهيار “حماس”.

سوريا.. انهيار العمود الفقري للمحور

منذ العام 2011، شكّلت سوريا الركيزة المركزية في “الهلال الإيراني” الممتد من طهران إلى بيروت. لكن سُقوط النظام أو ضعفه العميق بات يعني تفكك شبكة النفوذ الإيراني في المشرق العربي وانقطاع الشريان الحيوي الذي يُغذي حزب الله والفصائل العراقية. هذا الانهيار أفقد إيران قدرتها على المناورة الميدانية، وقيد نفوذها في لبنان والعراق واليمن.

بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، دخلت العلاقات السورية الإيرانية مُنعطفاً من التوتر والبرود، مع سعي القيادة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع إلى إعادة تقييم هذه العلاقة بما يتناسب مع أولوياتها الوطنية والإقليمية. وبينما تسعى طهران لاستعادة نُفوذها، تُفضل دمشق تبنّي سياسة خارجية أكثر تركيزاً على الاستقلالية والهدوء في العلاقات مع جميع دول العالم.

حزب الله.. عزلة متزايدة وتحديات داخلية

في لبنان، يُعاني حزب الله من ضغوط متزايدة على المستويين الداخلي والخارجي، ويواجه سلاحه المتفلت مطالبات دولية بنزعه، خصوصاً بعد الهجمات الإسرائيلية التي استهدفت مقرات الحزب في لبنان وسوريا، ما أدى إلى تراجع قُدراته العسكرية. وعلى الرغم من دعمها المستمر، تجد إيران نفسها في موقف صعب، حيث تسعى لتقديم الدعم لحزب الله من دون التدخل المباشر في الشؤون اللبنانية. والضغوط الأمريكية، مثل تقديم مساعدات للجيش اللبناني، تزيد من تعقيد الوضع، حيث تهدف هذه المساعدات إلى تعزيز سيادة الدولة اللبنانية وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بنزع سلاح الجماعات المسلحة.

الحوثيون.. آخر أوراق التوت

بعد تراجع نُفوذ إيران في مناطق أخرى، أصبحت جماعة الحوثي في اليمن الذراع الأقوى لطهران في المنطقة. ويواجه الحوثيون تحديات متعددة، بما في ذلك الضغوط العسكرية من التحالف العربي، وتراجع الدعم الإيراني بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية في إيران نفسها. ورغم ذلك، يُظهر الحوثيون استعداداً للتصعيد، حيث أعلنوا عن تنفيذ عمليات نوعية ضد أهداف أمريكية وإسرائيلية، ما يعني استمرار التنسيق الضمني مع طهران.

الحشد الشعبي.. مأزق السيادة والتأثير الإيراني

في العراق، يضم الحشد الشعبي، أحد أبرز أذرع إيران، فصائل مسلحة متعددة تدين بالولاء لطهران. ومع ذلك، يواجه تحديات كبيرة، منها الضغوط الداخلية من الحكومة العراقية للحدّ من نفوذه، والضغوط الخارجية من الولايات المتحدة الأمريكية التي فرضت عقوبات على جماعات وأفراد مرتبطين بالحشد. هذه الضغوط تُظهر التوتر بين رغبة طهران في الحفاظ على نفوذها في العراق وضرورة احترام السيادة العراقية.

بناء على ما تقدم، فإن أذرع إيران الإقليمية تواجه تحديات مُتزايدة ُتؤثر على قدرتها على تنفيذ استراتيجياتها في المنطقة. فبينما يسعى الحوثيون في اليمن للحفاظ على قوتهم، يُواجه حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق ضغوطاً داخلية وخارجية تؤثر على نفوذهم. سوريا، التي كانت تُعد العمود الفقري للمحور الإيراني، تشهد انهياراً في نفوذ طهران داخلها. هذه التحديات تُظهر تحولاً في موازين القوى في المنطقة، حيث تسعى طهران للحفاظ على سطوتها من خلال تكتيكات جديدة تتناسب مع الظروف المتغيرة، فإلى أين ستؤول الأمور؟