يكرّر البعض ما يشبه تعويذة مفادها بأن الاعتراف بدولة فلسطين يعني منح حركة حماس نصراً سياسياً. غير أنّ هذه المقولة تغفل حقيقة لا مناص منها: إن رفض الاعتراف بفلسطين هو الذي ما يغذّي الإسلاموية، من خلال تكريس فكرة أنّ العنف وحده يفتح الآفاق. قول “نعم” لفلسطين يعني إعادة الاعتبار لحلّ الدولتين، وبالتالي تهميش من يرفضونه. وفي مقدّمتهم حماس.
تجد فرنسا نفسها اليوم أمام جدل ما كان يجب له أن يُثار: هل كان ينبغي الاعتراف بدولة فلسطين؟ أم الاستمرار في انتظار لا نهاية له، تتخلّله تصريحات متكلّفة، كما لو أنّ الزمن، بفعل التآكل، قادر على تحويل الظلم إلى تسوية؟ الذين يعارضون هذا الاعتراف يلوّحون، دون انقطاع، بحجّة تحوّلت إلى شعار دعائي: إن ذلك سيقوّي حماس، بل يكافئها. لكن هذا المنطق لا يصمد أمام امتحان العقل ولا أمام الواقع.
أولاً، يجب التذكير بحقيقة يتظاهر الكثيرون بنسيانها: حماس لم تعترف يوماً بحلّ الدولتين. رؤيتها، المعبّر عنها في نصوصها التأسيسية، تقوم على منطق المواجهة الدائمة ورفض أي اعتراف بإسرائيل. وهذا التشدّد العقائدي هو ما جعلها، في الأذهان وفي صناديق الاقتراع، تبدو بديلاً جذرياً لسلطة فلسطينية غارقة في مفاوضات وتنازلات بلا نهاية. الاعتقاد بأن تأجيل الاعتراف بفلسطين سيضعف حماس يشبه افتراض بأنّه يمكن القضاء على العطش من خلال تجفيف نبع الماء!
ماذا يعني الاعتراف بدولة فلسطين؟ إنه إضفاء المشروعية والجدية على حلّ الدولتين، الحل ذاته الذي تعتبره باريس وبروكسل وواشنطن والمجتمع الدولي أفقا لا بديل عنه. بعبارة أخرى: إنه تكريس لإطار سياسي يستبعد حماس من حيث المبدأ. أما حرمان الشعب الفلسطيني من الاعتراف بدولته فلا يؤدي إلا إلى تكريس الفكرة التي يروّجها الإسلاميون على نطاق واسع: أنّ الدبلوماسية ميتة وأن المواجهة هي السبيل الوحيد. وبالتالي، فإن تأخير الاعتراف كان سيقوّي حماس، لا العكس.
إن حجّة الرافضين لهذا الاعتراف ليست فقط واهية، بل هي مُغرضة أيضاً. فهي تفترض أن يُؤخذ شعبٌ بأكمله رهينةً لتطرّف حركة مسلّحة، وكأن مستقبل أمة يمكن أن يُختزل في تعنّت فصيل إرهابي من أبنائها. ولو طبقنا هذا المنطق في سياقات أخرى لبدت النتيجة مضحكة: هل كان ينبغي رفض الاعتراف بإيرلندا خوفاً من الجيش الجمهوري الإيرلندي؟ أو بجنوب إفريقيا خشية تعزيز الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي؟ لقد أظهرت التجارب التاريخية، بالعكس، أنّ الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعوب هو دائماً أفضل لقاح ضد دوغمائية المتشدّدين الذين يزعمون التحدث باسم تلك الشعوب.
يجدر التنويه بأن الهوس بحماس غالباً ما يستخدم كستارة من الدخان لحجب الحقائق. فخلف الذريعة الأمنية، يكمن الحرص على إبقاء الغموض وتأجيل لحظة تحمّل الدبلوماسية الدولية بشجاعة لمبادئها. الاعتراف بفلسطين يعني القطيعة مع وهم مريح: وهم “عملية السلام” التي لا تعدو أن تكون سلسلة لقاءات نمطية وصور رتيبة ووعود معلّقة. والاعتراف يعني أيضا القول لإسرائيل، وللعالم أجمع، بإن الشرعية الدولية ليست مجرد شعار رنّان بل هي الأساس الذي لا يمكن أن يستقيم السلام والتعايش الدولي من دونه.
وفي آخر المطاف، الاعتراف بدولة فلسطين إنصاف لحقيقة بسيطة: فليس الاعتراف هو الذي يخلق الدولة، بل إنه يرسّخها فقط. ففلسطين موجودة بالفعل في وعي شعبها، وفي مؤسسات السلطة الفلسطينية- ولو كانت جنينية – وفي صمود ملايين الرجال والنساء الذين يتطلعون إلى حياة المواطنة الكريمة، لا إلى حياة مرهونة حتما بوصاية حماس أو الاحتلال الإسرائيلي.
من خلال اعترافها بدولة فلسطين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 22 سبتمبر الماضي، كانت فرنسا وفيّة لتاريخها ولمكانتها. هذه الخطوة الرمزية لا تساوي بالطبع إقامة فعلية لدولة فلسطينية ذات سيادة كاملة. لكنها فعل سياسي بامتياز ينتزع القضية الفلسطينية من براثن ثنائية الخيار المميت بين احتلال لا نهاية له وإسلاموية متطرفة لا حدود لتشدّدها وإجرامها.
نعم، الاعتراف بفلسطين يُضعف حماس بقدر ما يُضعف المتطرفين في إسرائيل. لأنه يبرهن بأن هنالك مسلكا آخر غير الحرب الشاملة أو وهم العودة إلى الوراء وتكريس الاحتلال مجدّدا. إنه يعيد الحياة إلى الدبلوماسية، والمصداقية إلى حلّ الدولتين، وقبل كل شيء، الكرامة إلى شعب سئم أن يُختزل مصيره إلى مجرّد متغيّر في معادلة محكومة بمصالح المتطرفين من أبنائه أو بالاحتياجات الأمنية لشعب آخر.
قرار الاعتراف الفرنسي يهدف للقول بأن زمن التسويف قد ولّى. فكل تأجيل، كل تردّد، يغذّي اليأس ويولّد التطرّف. الاعتراف بدولة فلسطين ليس خضوعاً لضغط أيديولوجي أو تهديد إرهابي، كما يُراد الإيحاء به. بل هو، على العكس، استعادة لزمام المبادرة السياسية وتقليص لنفوذ من يقتاتون من انسداد الآفاق. إن الشجاعة والوضوح اليوم لا يكمنان في التأجيل، بل في القول: نعم، فلسطين دولة. وإعلان ذلك بصوت عالٍ، لا ضد إسرائيل، بل باسم السلام، وباسم الحق، وباسم ذلك المفهوم الكوني للعدالة والمساواة الذي تعدّ فرنسا موطنه ومنشأه، والذي نحبّ كثيرا أن نراها تهتف باسمه مجدّدا.





