يشهد العالم اليوم موجة مُتزامنة من الهجرات “البشرية والمادية” بدرجة غير مسبوقة، يتدفق خلالها ملايين الأفراد ومعهم أصحاب الثروات العالية، من منطقة إلى أخرى بحثاً عن ملاذات آمنة توفر أنظمة ضريبية مُواتية، وبنية تحتية مالية متطورة، واستقراراً سياسياً وأمنياً. وتشكل الروابط التي تتقاطع فيها هذه الظاهرة محوراً جوهرياً في فهم كيفية إعادة توزيع الاقتصاد العالمي ومراكز السلطة المالية.
تُشير التقارير إلى انتقال أكثر من 142 ألف مليونير بمقرات إقامتهم أو أصولهم إلى دول أخرى خلال عام 2025، مقارنة بنحو 134 ألفاً في 2024، بنمو لامس 6%. ومن هنا ظهرت صيغة «ذروة الهجرة» للثروات، في ظل إدراك مُتزايد أن العالم يدخل مرحلة انتقالية في الجاذبية الجغرافية للثروة.
وبينما سجّلت دولٌ مثل المملكة المتحدة والصين صافي خسائر كبيرة من هؤلاء الأثرياء، حققت دول أخرى مثل الإمارات العربية المتحدة وسويسرا والولايات المتحدة مكاسب صافية وواضحة.
من الماضي إلى الحاضر
لطالما ارتبطت الهجرة بالقضايا الإنسانية والاجتماعية والسياسية، غير أن الأثرياء ينظرون إليها اليوم كأداة لإعادة توطين أصولهم واستثمارها في بيئات أكثر ملاءمة.
تاريخياً، شهدت أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين موجات هجرة واسعة نحو الولايات المتحدة ودول أخرى، أعادت رسم خرائط السكان والأصول بعد الحرب العالمية الثانية.
أما اليوم، يشكل الأثرياء نسبة متزايدة من المهاجرين، ليس بحثاً عن عمل فحسب، بل عن بيئات مالية أكثر جاذبية، وهياكل تنظيمية تدعم نمو الثروات وحمايتها من التقلبات الاقتصادية والجيوسياسية.
ملاذات الثروات.. لماذا وأين؟
يبرز تساؤل جوهري: ما الذي يجعل بعض الدول تتحول إلى مغناطيس للثروات، وما هي أبرز الوجهات التي تستقطب رؤوس الأموال في هذه المرحلة؟
يمكن القول إن مجموعة من العوامل الرئيسة أسهمت في تغذية موجة هجرة الثروات وتعزيز قرارات نقل الأموال والأصول عبر الحدود.
في مقدمة هذه العوامل يأتي الاستقرار السياسي والأمني الذي يمثل الضمانة الأولى لحماية الثروات من الاضطرابات والصراعات، يليه جاذبية الأنظمة الضريبية والحوكمة الاقتصادية التي توفر تخفيفاً للأعباء المالية إلى جانب حوافز استثمارية مشجعة.
كما تشكل البنية التحتية المالية المتقدمة ووجود بنوك قوية وقوانين واضحة لحماية الملكية بيئة مثالية لتدوير رأس المال.
مع العلم أن برامج الإقامة والجنسية عبر الاستثمار تُسهم في تسهيل انتقال الأثرياء واستثمار أموالهم في الأسواق الجديدة، بينما يظل تنويع المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية عاملاً حاسماً في قرار الكثيرين بالبحث عن ملاذات تحميهم من تقلبات العملة أو الأنظمة المحلية.
أبرز الوجهات المستقطبة للثروات
1- الإمارات العربية المتحدة
بحسب بيانات “هينلي آند بارتنرز” (Henley & Partners)، تحتفظ الإمارات كإحدى أبرز الوجهات العالمية لجذب الثروات في العالم، مع توقع صافي تدفق قياسي يبلغ 9,800 مليونير في 2025. مدعوماً ببيئة استثمارية مستقرة، ونظام ضريبي مرن، ومناخ معيشي جاذب.
2- الولايات المتحدة الأمريكية
رغم التحديات المرتبطة بالضرائب، ما زالت الولايات المتحدة تجتذب الأثرياء الباحثين عن فرص استثمارية ضخمة، إذ انتقل أكثر من 7,500 مليونير هذا العام للاستقرار فيها واستثمار أموالهم في قطاعات التكنولوجيا والعقارات والخدمات المالية.
3- سويسرا
تواصل سويسرا استقطاب الأفراد من أصحاب الثروات العالية، مع توقعات بوصول أكثر من 3,000 مليونير في عام 2025، مستفيدة من سمعتها الراسخة كمركز مالي آمن ووجهة مستقرة للودائع والاستثمارات الخاصة.
4- المملكة العربية السعودية
من المتوقع أن تستقبل السعودية نحو 2,400 مليونير جديد هذا العام، مستفيدة من الزيادة الملحوظة في أعداد المواطنين العائدين والمستثمرين الدوليين الذين يختارون الرياض وجدة كمراكز رئيسية للاستقرار والأعمال، ضمن مسار التحول الاقتصادي الذي تقوده رؤية السعودية 2030.
تدفقات عابرة للقارات
على المستوى القاري، من المتوقع أن تستقبل إيطاليا والبرتغال واليونان تدفقات قياسية من الأثرياء خلال عام 2025، تقدر بنحو 3,600 و1,400 و1,200 مليونير على التوالي، مدفوعة بأنظمة ضريبية مرنة، ونمط حياة جاذب، وبرامج نشطة للإقامة والجنسية عبر الاستثمار. وتبرز جنوب أوروبا بسرعة كمركز ثقل جديد لهجرة الثروات في القارة، مع استمرار موناكو في صدارة الوجهات المُفضلة، حيث يُتوقع أن تحتضن أكثر من 200 مليونير جديد في عام 2025.
كما تشهد الأسواق الأوروبية الصغرى استفادة مُتزايدة من موجة هجرة الثروات العالمية، إذ تتصدر الجبل الأسود (مونتينيغرو) معدل نمو عدد المليونيرات على مستوى العالم من حيث النسبة المئوية خلال العقد الماضي، مع أكثر من 150 مليونيراً متوقعاً في 2025، بزيادة تقدر بنحو 124% في عدد الأفراد ذوي الثروات العالية المقيمين هناك. ويُعزى ذلك أساساً إلى برنامج الجنسية عبر الاستثمار، وانخفاض معدلات الضرائب، وآفاق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
أما مالطا، فتأتي في المرتبة الثانية من حيث النمو النسبي لعدد الأثرياء، بنسبة 87%، مع إضافة ما يقارب 500 مليونير جديد. كما تشهد لاتفيا ارتفاعاً واضحاً في أعداد المليونيرات بنسبة 70% بين عامي 2014 و 2024، مع تدفقات صافية متوقعة لأكثر من 100 فرد من أصحاب الثروات العالية خلال هذا العام.
المستفيدون خارج أوروبا
تُشير المؤشرات إلى أن الوجهات التقليدية مثل سنغافورة (بأكثر من 1,600 مليونير)، وأستراليا (+1,000 مليونير)، وكندا (+1,000 مليونير)، ونيوزيلندا (+150 مليونير) بدأت تفقد جاذبيتها تدريجياً لدى رواد الأعمال والأثرياء العالميين، إذ يُتوقع أن تسجل أدنى مستوياتها من صافي التدفقات الواردة لهذه الفئة خلال عام 2025.
في المقابل، تبرز تايلاند بسرعة كملاذ آمن جديد في جنوب شرق آسيا، مع تدفق يُقدّر بنحو 450 مليونيراً جديداً خلال العام نفسه، مدعومة ببيئة استثمارية مرنة وتكلفة معيشة منخفضة نسبياً.
أما هونغ كونغ، التي تستقطب أكثر من 800 مليونير جديد هذا العام، فتشهد عودة تدريجية للتدفقات المالية من بقية آسيا بعد فترة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية، في مؤشر على استعادة الثقة في مركزها المالي الإقليمي. وبصورة موازية، من المنتظر أن تستقبل اليابان ما يزيد على 600 مليونير جديد بنهاية عام 2025، معظمهم من الصين، مدفوعين بعوامل الأمن النسبي والاستقرار السياسي والاقتصادي الذي يميز السوق اليابانية.
أمريكا الوسطى والكاريبي
تستعد دول أمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي لاستقبال أعداد قياسية من المهاجرين الأثرياء إلى شواطئها خلال عام 2025، في مقدمتها كوستاريكا (+350 مليونير) وبنما (+300 مليونير) وجزر كايمان (+200 مليونير) وبرمودا (+50 مليونير).
كما تدخل ثلاث دول إفريقية إلى قائمة الوجهات الأسرع نمواً في استقبال الثروات المليونية المهاجرة، وهي المغرب (+100 مليونير) وموريشيوس وسيشل (بـ +50 مليونير لكل منهما)، مدفوعة بمزيج من الحوافز الضريبية والاستقرار السياسي وبرامج الجنسية عبر الاستثمار.
من أين تهاجر الثروات؟
1- المملكة المتحدة
منذ استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، تحولت المملكة المتحدة من جاذبة صافية للمليونيرات إلى مُصدّر صافٍ للثروات، حيث يُتوقع أن يغادرها أكثر من 16,500 فرد من ذوي الثروات العالية في عام 2025. وهو الرقم الأكبر على الإطلاق بحسب التقارير.
ويُعزى هذا الارتفاع جزئياً إلى التغيرات الضريبية الشاملة التي أقرتها الحكومة، إذ تضمنت ميزانية أكتوبر/تشرين الأول 2024 زيادات في ضرائب أرباح رأس المال والميراث، بينما دخلت القواعد الجديدة الخاصة بثروات المقيمين والشركات العائلية حيّز التنفيذ في إبريل/نيسان 2025. كما بدأت دول أوروبية كبرى مثل فرنسا وإسبانيا وألمانيا تسجّل أيضاً صافي تدفّقات سلبية من الأثرياء.
2- الصين وآسيا القاريّة
تُقدم الصين صورة مُعقدة في مشهد هجرة الثروات العالمية. فعلى الرغم من توقع خروج 7,800 مليونير في عام 2025، إلا أن هذا الرقم يمثل أدنى مستوى منذ سنوات، في إشارة إلى تحول محتمل تدعمه القطاعات التكنولوجية المزدهرة في شنتشن وهانغتشو، إلى جانب نمو سريع في القطاع المصرفي الخاص وصناعات الرعاية الصحية والترفيه.
في المقابل، تشهد كوريا الجنوبية تدفقات صافية كبيرة من الأفراد ذوي الثروات العالية، تُقدر بنحو 2,400 مليونير في عام 2025، أي أكثر من ضعف عدد العام السابق.
كما تسجل فيتنام ارتفاعاً واضحاً في هجرة الأثرياء مع مغادرة نحو 300 مليونير، في حين تتوقع التقارير خروج 100 مليونير من باكستان خلال العام نفسه.
أما تايوان، فتعرض مشهداً متبايناً؛ فاقتصادها التكنولوجي يواصل النمو بنسبة 65% في عدد المليونيرات خلال العقد الماضي، إلا أن التوترات المتزايدة مع الصين ونقص العقارات الفاخرة يدفعان بعض الأثرياء إلى مغادرة البلاد، مع ترجيحات بخروج نحو 100 مليونير هذا العام.
3- الشرق الأوسط
رغم حالة عدم الاستقرار المستمرة في الشرق الأوسط، يُتوقع أن تسجل إسرائيل تدفقات خارجية تبلغ 350 مليونيراً في 2025. بينما يواجه لبنان خسارة تقدر بنحو 200 مليونير خلال الفترة نفسها. إضافة إلى قرابة 200 فرد من إيران يغادرون البلاد بحثاً عن وجهات أكثر استقرار.
4- دول “البريكس”
في أمريكا اللاتينية، تشير التقارير إلى مغادرة نحو 1,200 مليونير من البرازيل هذا العام. ومن بين دول “البريكس” الأخرى، ستفقد الهند قرابة 3,500 مليونير، وروسيا نحو 1,500، وجنوب إفريقيا 250 مليونير في 2025. ومع ذلك، تسير جميع دول “البريكس” على المسار الصحيح لتسجيل أدنى خسائر صافية في أعداد الأثرياء منذ جائحة كوفيد-19.
التأثيرات الجيو اقتصادية والحوكمة
إن فقدان الدول لأعداد كبيرة من الأثرياء لا يُعد مجرد ظاهرة اقتصادية، بل يُمثل نزيفًا في المهارات والاستثمارات والوظائف، ما يضعف القدرة التنافسية ويقلل من جاذبية تلك الدول كمراكز استثمار مستقبلية. وترتبط هذه التحولات بعوامل أوسع تشمل الاستقرار السياسي والتنمية المؤسسية وفعالية السياسات الضريبية.
أما الدول التي تطمح إلى تعزيز موقعها في خريطة الاقتصاد العالمي، فبات عليها تبني رؤية استباقية تفهم العلاقة الديناميكية بين الهجرة البشرية وتدفقات الثروات، بوصفها مدخلًا إلى استراتيجية شاملة تجمع بين جذب الاستثمار وتنمية الكفاءات وتعزيز المناخ المؤسسي.











