يعتقد جان-لوك ميلانشون، مايسترو البلاغة والأرستقراطي الغني لغوياً، أنه للوصول إلى السلطة وكسب قلوب الجماهير، يجب أن يسلبها كنزها المجاني الذي لا يقدّر بثمن، ألا وهو اللغة الفرنسية.
«إذا أردنا أن تكون اللغة الفرنسية لغة مشتركة، فيجب أن تكون لغةً “كريولية” (هجينة)!». لم يخفف هذا التصريح المدوّي لجان-لوك ميلانشون مطلع الصيف، من وطأة الحر فحسب، بل صعقنا بتداعياته وأصابنا بقشعريرة حتى النخاع.
أليست اللغة كنزنا الأول؟ ذلك الإرث الأمومي من الأشهر الأولى الذي يُعلمنا عبر الحب كيف نسمي العالم؟ بالتالي، فإن اقتلاع اللغة الفرنسية، التي عايشها كثير من الأجانب بإعجاب ورهبة، بسبب وضوحها وبساطتها ودقتها التي تنير الزوايا المظلمة في النفس والمجتمع؟ ما هو إلا شكل من أشكال المحو والإلغاء. فإلى أي مدى يمكن لزعيم سياسي أن يذهب في المبالغة الشعبوية؟ وأي تحريف إنكاري يُحرّك هذا الساخر الكبير، الذي هو في الوقت نفسه، خطيب موهوب، ومن دون شك نتاج راقٍ للثقافة الأدبية الجميلة الذي يسعى إلى تدميرها؟.
الجواب على هذا السؤال قدمه جورج أورويل منذ زمن، في روايته “1984”، التي اكتسبت أهميةً بالغة وأصبحت ذات صلة مذهلة بواقعنا، لا سيما منذ سجن خليفته، بوعلام صنصال، مؤلف رواية “2084”، والذي يعايش مرارة وبؤس ما تنبأ به في زنزانته بالجزائر.
في عالم أورويل المُتخيّل، حلّت لغةٌ جديدة محلّ جميع اللغات الأخرى: لغة “نيوسبيك”. كتب أورويل: “الغرض الحقيقي من اللغة الجديدة هو تضييق نطاق الفكر. فكل عامٍ ستتناقص الكلمات، وسيضيق مجال الوعي تدريجياً”، ويبدو أننا وصلنا إلى هذه المرحلة.
اليوم، جان لوك ميلانشون، زعيم حزب “فرنسا الأبيّة”، نفسه من النخبة، مُتقنٌ تماماً لتعقيدات اللغة الفرنسية الدقيقة والواضحة. فلا أخطاء نحوية في خطبه، ولا سقطات إملائية في كتاباته أو نصوصه، على عكس النائب في البرلمان الفرنسي سيباستيان ديلوغو، الذي يعاني ضعفاً في التعبير الشفهي والكتابي على حدّ سواء. يعتقد ميلانشون، مايسترو البلاغة والأرستقراطي الغني لغوياً، أنه للوصول إلى السلطة وكسب قلوب جماهير يحتقرها بينما يتودد لها، يجب أن يسلبها هذا الكنز المجاني الذي لا يقدّر بثمن، ألا وهو اللغة الفرنسية.
هل سمعتم في مدننا وعلى منصات التواصل الاجتماعي الكئيبة عن صعود “عديمي الفكر” و”اللامبالين” الذين يُمهدون الطريق للحماقة الشمولية، أو “التوتاليتاريزم ستيوبدتي”؟ أورويل نفسه حذّر مجدداً من أن المثقفين أكثر ميلاً للانجذاب إلى الشمولية من عامة الناس. وميلانشون سياسيٌّ مثقفٌّ للغاية، وله نفوذٌ كبيرٌ على النخب اليسارية المتطرفة، وهي نفسها التي تدعو باستمرار إلى التفكيك، رغم أن الشعوب والدول تتوق ببساطة إلى البناء.
هكذا تسير الأمور مع اللغة الجديدة “نيوسبيك” في بلدنا الجميل، بخطى مثقلة بالعقبات. فيما على الضفة الأخرى من الأطلسي، يشارك دونالد ترامب في عملية التفكيك ذاتها بفرح بالغ. لكن بأسلوب أقل ذكاءً و”فرنسية” من نهج ميلانشون، إذ إن مفردات سيد البيت الأبيض فقيرة إلى درجة التصحر، وتأثيرها على ذكاء الأميركيين ليس أقل بؤساً.
منذ بداية مغامرته السياسية الجديدة، أتحفنا ترامب بمجموعة من الردود السخيفة. فإلى المسكين فولوديمير زيلينسكي، المحاصر في المكتب البيضاوي، قال: «لماذا لا تقول شكراً؟ ألا يمكنك شراء ربطة عنق؟» وعن بوتين بعد انتهاء “شهر العسل” بينهما قال: «هو فقط يريد الاستمرار في قتل الناس، وهذا ليس جيداً!». وبخصوص وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، علّق ترامب: «هناك دولتان تتقاتلان منذ فترة طويلة، ولا أعرف ماذا يفعلان بحق الجحيم، أنا لست سعيداً!» أما بالنسبة إلى المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، فخاطبه مباشرة بالقول: «لقد نلتَ هزيمة نكراء!» وعن مديرة الاستخبارات الأميركية تولسي غابارد، والقدرات النووية الإيرانية، فقال: «لا يهمني ما تقوله!».
إن مشكلة اللغة الجديدة، “نيوسبيك”، أنها تنتشر كالنار في الهشيم. ففي قمة الناتو في لاهاي، بعد أن وبخ ترامب صحفية من مدريد بالقول: “أنت إسبانية؟ لست معجباً بذلك!”، وأثنى على مظهر اثنين أو ثلاثة من المحاورين وأناقتهم، اضطر مارك روته، الأمين العام للناتو، أن يساير الموجة قائلاً: “اسمعوا، الأب عليه أن يرفع صوته أحياناً!”، قالها صارخاً في وجه الدول الأعضاء التي رآها غير متعاونة بما يكفي أمام انتقادات الرئيس الأميركي.
تُضعف “نيوسبيك”، التي تُمارس على أعلى مستويات السلطة، ذكاء أعلى مستويات المجتمع. وهدف ترامب، مثل هدف ميلانشون، كسب تأييد أكبر قدر ممكن من الجمهور. يتحدث الأمريكي بكلمات حادة وصريحة، ولا يملك أي مهارات خطابية. والأمر يشبه اللكمة المباشرة في عالم “الرانشات”، وحديث الأعمال، وسخرية تلفزيون الواقع. أما الفرنسي، فهو على النقيض من ذلك تماماً، إنه متحدث بارع، لديه ترسانة لغوية قوية لإقناع الناس بالتحدث بطريقة مختلفة ومتجانسة، ليُشعل الثورة التي يريدها.



