شكّلت الحرب في غزة نقطة تحوّل في حسابات التنظيمات المسلحة في المنطقة، وأثّرت بعُمق في إدراك “حزب الله” اللبناني على وجه التحديد، لطبيعة المخاطر والتكلفة المحتملة لأي مغامرة عسكرية جديدة. في المقابل، تفتح هذه التجربة المجال أمام الدولة اللبنانية لإعادة التفكير في ملف حصر السلاح بيد الدولة وقف صيغ عملية تُراعي واقع الداخل وإمكانات التفاهم الإقليمي.
أظهرت تجربة غزة أن ميزان القوى المُعاصر لا يُحسم بالسلاح وحده، بل يتداخل معه الإعلام والاقتصاد والرأي العام الدولي والمصالح الإقليمية. أمام هذا الواقع، لم يُبادر “حزب الله” لغاية الآن إلى اتباع سياسة تجنّب لبنان مواجهة شاملة قد تدمّر جنوبه المُحاذي لإسرائيل، وقد يمتدّ ذلك إلى البنية التحتية للبلاد بأكملها. التجربة الحمساوية في غزة برهنت أيضاً أن الردع قد ينهار في غياب أي غطاء سياسي واقتصادي، وأن النصر العسكري المجرّد لم يعد المعيار الوحيد للبقاء أو الشرعية.
العزلة تكلف أكثر من الخسارة العسكرية
تجربة حماس بينت أن العُزلة السياسية قد تكون أعنف من الخسارة الميدانية. غداة اندلاع الحرب، شعرت غزة بأن دعماً عربياً ودولياً فعلياً غاب أو اقتصر على بيانات رمزية، ما أعاد طرح مسألة الشرعية والحماية السياسية كعنصر حاسم في أي صراع. بناء على ذلك، يسعى “حزب الله” إلى ترسيخ شرعيته داخلياً عبر التأكيد بأن سلاحه يحمي لبنان ولا يرتبط بمشاريع إقليمية، لكن خطاب التبرير هذا لم يَعُد كافياً لإقناع شريحة واسعة من الشعب اللبناني المُثقلة بالأزمات السياسية والاقتصادية والمعيشية.
حدود الدعم الإيراني
أظهرت الحرب في غزة أيضاً حدود تَدخل الحلفاء الإقليميين. على الرغم من دعم إيران لحركات ما يُسمى “محور المقاومة”، لم تَردّ طهران بتدخل عسكري مباشر، مُكتفية بتفعيل قنوات الضغط عبر وكلائها. هذا يضع “حزب الله” أمام حقيقة قاسية: أي مواجهة مع إسرائيل لن تلقى تدخلاً مباشراً من طهران، والكلفة ستكون في النهاية على لبنان وحده.
يُعد الانهيار الاقتصادي في لبنان عامل ضغط قد يُستخدم في سياق تفاوضي لإقناع مكوّنات الساحة السياسية بضرورة الانخراط في مشروع إنقاذ وطني. ربط الدعم الدولي أو العربي بشروط تتعلق بتوحيد القرار الأمني والعسكري قد يضع “حزب الله” أمام خيارين مُتباينين: المشاركة في مشروع وطني اقتصادي-سياسي يضمن حماية قواعده الاجتماعية، أو البقاء في عُزلة داخل بيئته نفسها مع تآكل المكاسب المعيشية والسياسية، وصولاً إلى انهيار كامل مكوّنات الدولة اللبنانية، التي تعاني أصلاً من أوضاع اقتصادية ومعيشية وأمنية متردّية.
الاغتيالات بعد وقف النار
على الرغم من الهدوء الميداني النسبي في لبنان، منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ فجر يوم 27 نوفمبر تشرين الثاني 2024، واصلت إسرائيل سلسلة اغتيالات دقيقة استهدفت قيادات وعناصر في “حزب الله”. ووفق تصريحات الجيش الإسرائيلي، تجاوز عدد قتلى الحزب منذ وقف إطلاق النار أكثر من 300 عنصر، فيما كان قد خسر خلال الحرب ما بين 4 و5 آلاف مُقاتل وأُصيب نحو 9 آلاف آخرين. اللافت أن معظم هذه العمليات جرت أثناء تنقّل المُستهدفين على الطرقات في الجنوب، ما يُثير تساؤلات حول قدرة “حزب الله” على تطوير أساليب التمويه أو التصدي للتقنيات الإسرائيلية المتطورة في الرصد والاستهداف، واحتمال إدخال أدوات استخبارية جديدة من شأنها تعميق التفوق الميداني لإسرائيل حتى بعد انتهاء العمليات العسكرية العلنية.
لم تُفض تجربة الحرب الأخيرة إلى تسليم سلاح “حزب الله”، لكنها أعادت تشكيل رؤيته التكتيكية والاستراتيجية تجاه أي مغامرة مستقبلية. في المقابل، مسألة نزع سلاح “حزب الله” لا يمكن اختزالها في مجرد عملية عسكرية أو قرار تقني؛ بل تندرج ضمن مشروع مُعقّد يتقاطع مع بنية المجتمع اللبناني وشبكات المصالح الإقليمية. لذا، فأي مسار واقعي لتحقيق هذا الهدف يتطلب ثلاثة شروط على الأقل:
1- تحقيق إجماع سياسي ووطني واضح على خارطة طريق مُتدرِّجة تشمل دمجاً واستيعاباً وتعويضات للعناصر المسلحة في حزب الله.
2- بناء مقدرات فعلية للدولة والجيش، من الناحية المالية واللوجستية، لتفادي الفراغ الأمني.
3- ضمانات إقليمية ودولية لحماية لبنان من الانعكاسات السلبية أو التدخلات الخارجية.
4- إدارة دقيقة للبُعد الاجتماعي والاقتصادي المتصل بمنظومة “حزب الله” لضمان أن أي انتقال لا يحوّل سحب سلاح الحزب إلى انهيار في الخدمات أو تدهور للأمن الداخلي.
القوى المعارضة: إجماع على المبدأ وتباين في المقاربات
على صعيد قوى المعارضة اللبنانية، تتقاطع المواقف على اعتبار سلاح “حزب الله” المعوّق الأكبر أمام قيام دولة قوية، لكنها رؤى مختلف الأقرباء تختلف في مُقاربة الأمثل لحل هذه المعضلة. فالقوى السيادية التقليدية مثل “القوات اللبنانية” و”الكتائب” و”الوطنيين الأحرار” وغيرها من تشكيلات المعارضة ذات الغالبية المسيحية، تُطالب بنزع السلاح بالكامل وتطبيق القرار 1559، مُعتبرة أن لا إصلاح ولا سيادة بوجود “دولة داخل الدولة”. أما “التيار الوطني الحر” الذي لم تَعُد صورة تحالفه مع “حزب الله” واضحة المعالم، فيتبنى موقفاً مغايرا يطالب بربط مسألة نزع سلاح “حزب الله” بـ استراتيجية دفاعية وطنية” تضع السلاح في إطار الدولة من دون المساس بفكرة “المقاومة”.
أما القوى السُنّية المُعارضة، التي تراجع نفوذها في غياب تيار “المستقبل” الذي دخل في حالة سبات منذ مغادرة سعد الحريري إلى خارج لبنان، فإنها تطالب بتحييد لبنان، وتنادي بتسوية مدعومة عربياً ودولياً تضمن عدم استخدام السلاح في الداخل البناني، فيما ترى المعارضة المدنية الجديدة أن نزع السلاح ضرورة لبناء دولة مدنية مُوحّدة، لكنها تدعو إلى مسار تدريجي لتفادي التصادم والاقتتال الداخلي.
من جهته، يتخذ الحزب التقدمي الاشتراكي ذو الأغلبية الدرزية موقفاً وسطياً، إذ يُدين الاعتداءات الإسرائيلية ويدعو لوقف إطلاق النار، لكنه يرفض التصعيد العسكري ويُفضّل الحلول السياسية والدبلوماسية. كما يُؤكد على حصر السلاح بيد الدولة وفتح قنوات الحوار مع مختلف الأطراف.
على الرغم من هذا التباين في الرؤى والمواقف، فقد ظهرت على الساحة السياسية والاجتماعية اللبناني بوادر إجماع وطني متنام بضرورة تنظيم السلاح ودمجه تدريجاً في مؤسسات الدولة، في انتظار بلورة توافق سياسي لبناني وإقليمي يُتيح ترجمة هذا المبدأ عملياً.


