تحليل سياسي

دارفور تُعقِّد المشهد.. السودان على حافة الانهيار الشامل

بقلم: كمال كروري
بقلم: كمال كروري

بعد ساعات من سقوط مدينة الفاشر – آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفو – في يد قوات الدعم السريع، يوم 26 من أكتوبر 2025، نظمت منصات تابعة للطرفين حملات إعلامية مكثفة حول انتهاكات عرقية وُجهوية ارتكبها كل طرف ضد إثنيات مُحددة، ما أثار مخاوف كبيرة من انزلاق السودان نحو الفوضى والانهيار الشامل، في ظل المآلات الخطيرة للحرب المستمرة منذ منتصف أبريل 2023، التي أدت إلى مقتل أكثر من 150 ألف شخص حتى الآن.

رأى مراقبون أن سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، عَقّدت المشهد الأمني في السودان بشكل كبير، وزادت من مخاطر الانقسام، لكنهم قالوا: إن “تلك التطورات سترسم مساراً جديداً للأحداث في البلاد تتحدد وجهته بناءً على مُعطيات الميدان، والقدرة على كبح قائدي الجيش عبدالفتاح البرهان والدعم السريع محمد حمدان دقلو، ودفعهما إلى التجاوب مع مطالب الدولية والمحلية المتزايدة الداعية لوقف القتال. 

وحذر المراقبون من بروز عدة مؤشرات تؤكد انزلاق السودان نحو الانهيار المؤسسي والمجتمعي الشامل في ظل التداعيات الكارثية للحرب. حيث لخصوا تلك المؤشرات في تزايد الانتهاكات ضد المدنيين، واتساع نطاق التصفيات العرقية، وحالة الانهيار المُؤسسي والانسداد التاريخي في الأفق السياسي.      

في السياق ذاته، أبدى البعض تشاؤمه الشديد حيال ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في المستقبل القريب، ورأوا أن الغُبن الاجتماعي الناجم عن الانتهاكات المُتزايدة، والمبنية على أسس عرقية وجهوية، ستقلل من فرص الحل السلمي، الأمر الذي قد يزيد من احتمالات التدخل الأممي. لكنهم ربطوا نجاح أي مسعى دولي بقدرة الأطراف المدنية على تأسيس حكومة انتقالية عالية الكفاءة والنزاهة تنقذ البلاد من الانهيار، وتعيد بناء مؤسساتها الأمنية والمدنية على أسس مهنية وقومية تنأى بها من قبضة العسكر وتنظيم الإخوان المسلمين التي أقعدتها لعقود طويلة. 

انقسام خطير 

قبل أن ينجلي دخان الرصاص الكثيف الذي صاحب سقوط الفاشر في يد قوات الدعم السريع في الـ 26 من أكتوبر، غطى سماء السودان دخان كثيف آخر نجم عن الضخ الهائل في وسائط التواصل الاجتماعي لمقاطع الفيديو والرسائل والصور التي تظهر انتهاكات كل طرف ضد المدنيين. واتخذت تلك الحملات الإعلامية مساراً جهوياً خطيراً أججته الانتهاكات الجسيمة المرتكبة، التي شملت من قبل الجيش ومجموعات متحالفة معه، عمليات قطع رؤوس وبقر بطون وتصفيات واعتقالات ومحاكمات على أسس الانتماء الجغرافي منذ اندلاع القتال. 

تورط مُتعدد الأطراف

في هذا السياق، يؤكد الصادق حسن القيادي في هيئة محامو دارفور، تورط جميع أطراف القتال في ارتكاب جرائم حرب، ويُحمّلها مسؤولية ما لحق بالمدنيين من قتل جُزافي وخراب ودمار البلاد. كما يحذر حسن من انتشار خطاب الكراهية المتزايد بين نشطاء القبائل، مشيراً إلى تأثيره على التماسك الإجتماعي ومستقبل استقرار البلاد. ويوضح أن “هذه الجرائم الموثقة ستُلقي بظلالها على التعايش السلمي بين مختلف المكونات، وقد برزت أصوات تدعو بالفعل للانتقام”. 

مع اتساع رقعة القتال، تتزايد المخاوف من تزايد الانتهاكات ونزاعات الانتقام الجهوية. وخاصة أن سقوط الفاشر تزامن مع تصاعد خطير في جبهات القتال في ولاية كردفان المجاورة، وسط تقارير عن مقتل أكثر من 8 آلاف مدني وعسكري في أقل من شهرين، خلال معارك دارت في مناطق قريبة من مدينة الأبيض عاصمة الإقليم، التي تعتبر من المدن القليلة التي لا تزال في قبضة الجيش. 

وأججت السيطرة على الفاشر المخاوف من أن يؤدي تزايد التصعيد الميداني إلى المزيد من الانتهاكات العرقية والإثنية، وسط تقارير تشير الى تقدم كبير لقوات الدعم السريع في شمال كردفان لتمهيد الطريق نحو العودة إلى العاصمة التي خرجت منها في أبريل 2023.

مُنعطف استراتيجي

اعتبر الباحث السياسي خالد كودي، أن السيطرة على الفاشر “ليست حدثاً عسكرياً عابراً، بل منعطف استراتيجي يعيد رسم الخريطة الجيوسياسية وتشكيل السودان من قبل “الشعوب” المُهمشة التي لم تتوقف عن مقاومة هيمنة المركز لعقود طويلة”.

في المقابل صَعّدت قيادات الجيش من لهجتها، وسط دعوات للعودة لعمليات الاستنفار الشعبي في مناطق الشمال. وتحدثت تقارير عن خلافات داخل معسكر تحالف الجيش بخصوص المسؤولية عن سقوط الفاشر. وفي حين لم يصدر أي بيان رسمي من الجيش او القوى المشتركة التي تضم الحركات الدارفورية المتحالفة معه، صعدت منصات تابعة للجيش والقوى المشتركة من تبادل الاتهامات التي وصلت إلى درجة التهديد بفض التحالف. 

 وارتبط تقدم الجيش في نهاية 2024 في العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة لاحقاً، بانتهاكات كبيرة ارتكبت في حق مدنيين هناك تحت مبرر التعاون مع الدعم السريع أو لدواعي تتعلق بتصفية مُناصري الثورة التي أطاحت بنظام الإخوان في أبريل 2019. واتهمت كتيبة البراء وقوات درع السودان المتحالفتان مع الجيش بارتكاب عمليات قتل مُمنهجة طالت المئات في الجزيرة والخرطوم. وبسبب تلك الانتهاكات أُدرج قائد درع السودان ابوعاقلة كيكل في قائمة العقوبات الأميركية في أغسطس الماضي.  

في الجانب الآخر، أُتهمت قوات الدعم السريع بارتكاب جرائم أيضاً. في هذا السياق، يرى خالد كودي أن قوات الدعم السريع خاضت معارك مُعقدة، أظهرت فيها شجاعة ميدانية وبسالة استثنائية، ولعبت دوراً في حماية المدنيين وتأمين خروجهم الآمن من مناطق الاشتباك، لكنه يُلفت في الجانب الآخر إلى عدد من “التجاوزات” التي ارتكبها مقاتلون في صفوفها، التي ظهرت في مقاطع فيديو منتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي، ويقول “هذه الأفعال تتناقض تماماً مع مبادئ القانون الدولي الإنساني”.

أين الحل؟

تتزايد الضغوط الدولية على طرفي النزاع للجلوس إلى طاولة التفاوض من أجل التوصل إلى حل للأزمة. وتبرز الخطة التي أعلنت عنها في الـ 12 من سبتمبر المجموعة الرباعية المكونة من الولايات المتحدة الأمريكية والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر، كواحدة من الحلول المحتملة، لكن قيادة الجيش تواجه ضغوطاً كبيرة من حلفائها في تنظيم الإخوان لعدم القبول بها. 

تنص الخطة، التي أعلنت قوات الدعم السريع في وقت سابق استعدادها للتعاطي معها، على وقف لإطلاق النار وهدنة انسانية لمدة 3 أشهر، يعقبها انخراط الأطراف المدنية في عملية سياسية تُستبعد منها أطراف القتال وتنظيم الإخوان، الذي أكد مسعد بولس مستشار الرئيس الأميركي للشرق الأوسط وأفريقيا بأن مشاركته في أي عملية سياسية “خط أحمر”.

ويركز معظم المراقبين على ضرورة معالجة الظواهر السلبية التي أفرزتها الحرب، من خلال ترسيخ مبدأ الديمقراطية والعدالة والمساواة وإزالة كل أسباب الغُبن الاجتماعي.   

تدخل أممي فاعل

لكن الحل بالنسبة للباحث هشام هباني، في ظل حالة الانهيار والفوضى السائدة، يكمن في “تدخل أممي فاعل، يكون مقروناً بوجود حكومة وطنية من خبراء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة”. ويضيف: “التدخل الأممي في السودان ليس انتقاصاً من السيادة، في ظل تسارع الأحداث نحو منزلق خطير، وتزايد معدلات الموت والانتهاكات الوحشية التي طالت المدنيين في كل ربوع الوطن الذي بات يواجه خطر الزوال، لا مُجرد خطر الانقسام أو الفشل”. فـ”مع انهيار مؤسسات الدولة وتفكك الأجهزة الأمنية وظهور عشرات المليشيات من المتطرفين الإسلاميين والمرتزقة واللصوص، بات واضحاً أن الأفق السياسي قد انسد تماماً، وأن السلام والاستقرار أصبحا من المستحيلات في ظل هذه الفوضى المروعة”.