أجرى الحوار: إيمانويل رازافي
أجرى الحوار: إيمانويل رازافي

مقالات مشابهة

حروب النفوذ

رافائيل شوفانسي: “الحرب عبر النسيج الاجتماعي” تهدّد بتفكيك البنى المجتمعية للدول

أجرى الحوار: إيمانويل رازافي
أجرى الحوار: إيمانويل رازافي

رافائيل شوفانسي، ضابط سامٍ في مشاة البحرية الفرنسية، يدرّس في «مدرسة الحرب الاقتصادية» بباريس. وهو خبير في الصراعات الحديثة ومتخصص في قضايا النفوذ الاستراتيجي. وقد أصدر في فبراير الماضي كتاباً بعنوان «الانتصار بلا عنف. دليل النفوذ وحرب المعلومات» (منشورات VA). في هذا الحوار يشرح لنا الاستراتيجيات التي تستخدمها الدول للتأثير في مجتمعات الدول المعادية لها، عبر«التلاعب بالإدراك» و«إعادة تشكيل الواقع» في عالم يشهد تحولات عميقة.

– كيف تعرِّف النفوذ؟

ـ النفوذ هو التأثير بشكل غير مباشر، لكنه دائم على قرارات طرف ما أو على مجرى الأحداث. نتحدث هنا عن «قوس التفاعلات». النفوذ لا يعني الرد على أفعال الخصم، بل تهيئة بيئة استراتيجية والتأثير على إدراك الجهة المستهدفة على المستوى التكتيكي، بهدف دفعها للتصرف تلقائياً في الاتجاه المطلوب، من دون استخدام القوة أو الإكراه. صاحب عملية النفوذ هو بمثابة مهندس للتغيير، يوجّه القوى، ويؤثّر في تشكيل اللاوعي، ويعيد صياغة المجتمعات في المجالات التي تهمه.

في الحقيقة، النفوذ هو الاسم الآخر للتخطيط البيئي عبر صياغة السرديات التي تؤدي إلى نتائج عملية محدّدة. لتحقيق أهدافه، يعيد تشكيل البنى الإدراكية والاجتماعية. أن تؤثر يعني أن تختار ساحة اللعبة الاستراتيجية، وتحدد قواعدها وفق مصالحك. ومع ذلك، يجب ألا ننسى أن النفوذ يختلف عن حرب المعلومات، التي تشمل الإجراءات الهجومية الإعلامية الهادفة إلى إرباك قدرات التحليل، وشلّ القدرة على اتخاذ القرار، وتفكيك التماسك الداخلي والشرعية لدى الخصم، مع تأمين الذات ضد هجمات مضادة مماثلة.

ما هو مفهوم «الحرب عبر النسيج الاجتماعي» (GMS)، التي ذكرتها في كتابك؟

– تتكون الـGMS من شقين: النفوذ وحرب المعلومات. وهي النسخة المتقدمة مما كان جورج كينان قد أسماه في مذكرة رفعت عنها السرية من قبل الـCIA، وتعود إلى العام 1948، بـ«الحرب السياسية» Political Warfare.

عبر التاريخ، كانت الحروب تدور في البداية بين جيوش نظامية. ثم مع بروز الحروب الثورية والتخريبية والحروب الاستعمارية، انتقلت ساحة الصراع إلى داخل الشعوب، أي إلى النسيج الاجتماعي. اليوم، وقد دخلنا «عصر الجماهير»، بفعل التأثير المتزايد لشبكات التواصل الاجتماعي، ظهرت “الحرب عبر النسيج الاجتماعي”، أي استهداف تشكيلة كاملة من البنى الاجتماعية والإدراكية التي تسمح لمجموعة ما بفرض استراتيجيتها.

إنها حرب متعددة المجالات، لا تعترف بالحدود الجغرافية ولا بالزمن. هي بمثابة هندسة استراتيجية متكاملة، تستخدم كل الوسائل لإعادة تشكيل البنى المادية والمعنوية لمنافسيها، بما يخدم مصالحها. المهم أن نفهم أن الـGMS لا تستهدف قوات الخصم العسكرية، بل آلياته وبناه وطبيعته الاجتماعية. إنها لا ترد على فعل عدائي، بل تسعى إلى منعه من تحقيق أهدافه أو حتى إلى منعه من التشكّل.

ما المراحل الأساسية لعملية نفوذ ناجحة؟

– عملية النفوذ تمر بدورة محددة الأهداف. هذه الدورة تضم أربع مراحل مترابطة يجب التعامل معها بشكل شامل، من خلال:

1- رسم خريطة للفاعلين وبيئتهم، التي قد تكون اجتماعية أو إدراكية أو فكرية، ورسم خريطة للمعتقدات والمصالح بين الفاعلين. المجتمع أشبه بمنظر طبيعي له تضاريسه ومناخه وخصائصه التي يجب معرفتها بدقة للعمل عليها والتأثير فيها.

2- توفير قوة الدفع، عبر إنشاء شبكة مع الفاعلين الأكثر تقبلاً لعملية التأثير والنفوذ، ثم الوصول عبرهم إلى الفاعلين المحايدين.

3- إطلاق الديناميكية، من خلال الإيعاز بمبادرات وأفعال مشتركة، مع صياغة سردية تتبناها الأطراف المشاركة جميعاً.

4- مرحلة الموازنة أو التثبيت، أي تحويل ما كان في البداية خطة إرادية أو علاقة تعاقدية إلى نظام مكرّس ومتناسق ستعتبر الجهة المستهدفة نفسها أنه خيارها الأفضل. لماذا؟ لأنها سترى أن أي محاولة لتغييره ستكون أثقل كلفة من استمراره.

بهذا المعنى، النفوذ قوة مجرّدة، لأن مهندس عملية النفوذ لا يسعى إلى السيطرة على الجهة المستهدفة، بل إلى أن يصبح ضرورياً ومفيداً لها، بحيث لا تستطيع الاستغناء عنها، لأنه يحرص على إقامة علاقة متوازنة تجد فيها الجهة المستهدفة  نفسها مصلحتها.

ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الفن والثقافة في حروب النفوذ؟

– حروب النفوذ هي حروب إغواء. وهي أيضاً حروب ثقافية تتيح للدولة إعادة تعريف الأمور والمفاهيم وفق معاييرها الخاصة ومراجعها الأخلاقية، عبر فرض أدوات التحليل التي سيستخدمها الخصم، لأن الثقافة والجماليات تعكس رؤية معينة للعالم.

خلال الحرب الباردة، مثلاً، جعلت الولايات المتحدة من نيويورك عاصمة للفن والفكر، على حساب باريس، وذلك لتصدير نموذجها وتعزيز قوتها. اليوم، فرنسا تنتج في الغالب أعمالاً متأثرة بالإنتاج الأمريكي، ومع تراجع «الاستثناء الثقافي الفرنسي»، فقدت فرنسا جزءاً من قدرتها على تجسيد نموذج ديمقراطي بديل أو منافس للولايات المتحدة. الحرب الثقافية، حتى بين الحلفاء، لها أثر كبير. فقد ساهمت الـCIA في الترويج للفن التجريدي، مثلا، بهدف تهميش الواقعية السوفياتية التي بات يُنظر إليها بوصفها فناً ماضويا ومتخلفاً. مما أسهم في إعطاء الانطباع بأن المجتمع والنموذج السياسي السوفياتي متخلفان عن مواكبة العصر.

اليوم، الفن والثقافة يعدّان جزءا من استراتيجيات القوى الكبرى: الصين تنشئ معاهد كونفوشيوس النشطة عبر العالم، تركيا تغزو العالم الإسلامي بمسلسلاتها، وكوريا الجنوبية تفرض ثقافتها عبر موسيقى الـK-pop.

إذا ضربنا مثلا بفرنسا، كيف تحلّل الدور الذي تلعبه الاستخبارات الروسية والإيرانية في تصدير الصراعات الروسية-الأوكرانية والإسرائيلية-الفلسطينية إلى داخل فرنسا؟

– الهدف من حروب المعلومات ليس تدمير الخصم، بل تفكيكه من الداخل. ولقد عمل مشغّلو هذه القوى المعادية على إسقاط الصراعات المذكورة على الانقسامات الداخلية الفرنسية، ففرضوا على الرأي العام نوعا من «النقل» لتلك الصراعات إلى الداخل الفرنسي .

معظم الفرنسيين لا يعرفون أسباب تلك الصراعات ولا رهاناتها الحقيقية، وكان يُفترض أن يكونوا محايدين أو غير مبالين بها. لكن استيراد هذه النزاعات جعلها تسهم في تعميق الإحباطات الداخلية. والدليل على ذلك أن عنف بعض المواقف الفرنسية من الصراعات المذكورة لا يمكن فهمه إلا إذا رُبط بما يخفيه : نوع من الحرب الأهلية بالوكالة، التي تفاقم من الانقسامات العرقية أو الاجتماعية في فرنسا.

هذا الأمر يكشف عن هشاشة غير مسبوقة في المجتمع الفرنسي، حتى أن تفككه أصبح فرضية واردة وممكنة. القوى الخارجية تستغل هذه الانقسامات الداخلية، وتسعى لتحويل مطالب حقوقية أو ديمقراطية طبيعية إلى نزعات انفصالية تمسّ بلُحمة المجتمع، وتهدد الجسم الوطني بالانهيار من الداخل.

من الصعب منع هذا النوع هذه عمليات التأثير والنفوذ، لأنها خفية بطبيعتها، وغير قانونية في غالب الأحيان. لكن السؤال يبقى مطروحا : هل علينا أن نتخلى عن طبيعتنا كمجتمع متفتح وحر، لأننا نتعرض لهجمات؟

هناك أدوات قانونية يمكن تفعليها. فبعض المؤثرين المرتبطين بقوى أجنبية صاروا مستهدفين من قبل القضاء. الوعي بهذه المخاطر يتنامى، ولكن ببطء. علينا أن نعزز تماسكنا، وأن نعلّم مواطنينا ماهية الـGMS، وأن نجرؤ على أن نكون هجوميّين، وألا نكتفي بالدفاع. ففي حروب النفوذ والمعلومات، دائماً ما تكون الأفضلية للمهاجم.

– ذكرت في كتابك أن السويد أنشأت «وكالة للدفاع النفسي» لمواجهة التضليل. كيف تعمل مثل هذه الهيئة؟ وهل يمكن لدول أخرى أن تستلهم منها؟

– السويد أعادت تفعيل مبدأ «الدفاع الشامل» الموروث عن فترة الحرب الباردة. الفكرة تقوم على تنظيم المقاومة النفسية للشعب وصموده المعنوي في وجه المعطيات التخريبية. هذه المقاربة تفترض أن أمن الدولة يرتكز بالأساس على إرادة المقاومة ووحدة الشعب أكثر من ارتكازه على البنى التحتية الأمنية أو الدفاعية. بالتالي، يصبح التصدّي لـ “الحرب عبر النسيج الاجتماعي” مسؤولية كل مواطن، ليمارس عبرها واجبه الفردي في الدفاع عن نموذجه المجتمعي وتكريس القيم والمبادئ والمصالح التي يتقاسمها مع شركائه في المواطنة.