بقلم آدمز وايت
بقلم آدمز وايت

مقالات مشابهة

تقرير إخباري

الجيل الثالث للتطرف: حرب الخوارزميات والتمويل الخفي

بقلم آدمز وايت
بقلم آدمز وايت

دخلت الجماعات المتطرفة عقداً جديداً من التحوّل النوعي؛ هجرت خلاله أنماط “الخلافة الإقليمية” إلى فضاءات رقمية هجينة، تُدار خوارزمياً وتُموَّل عبر شبكات مالية لا مركزية يصعب تعقّبها. ولم تعد الحرب ضد التطرف مواجهة ميدانية بين جيوش وتنظيمات، بل صراعاً على البنية التحتية للعالم الرقمي ذاته: من خوارزميات، وذكاء اصطناعي، وأنظمة مالية غير خاضعة للسيادة.

تشير بيانات “مؤشر الإرهاب العالمي 2025″، الصادر عن “Institute for Economics & Peace”، إلى انخفاض عدد الحوادث الإرهابية بنسبة تقارب 10% مقارنة بعام 2023. لكن المفارقة أن عدد الوفيات ارتفع 22%، مسجّلاً أعلى مستوى له منذ 2017. هذا التباين ليس مجرد خلل إحصائي، بل سمة مميّزة لولادة “الجيل الثالث من التطرف” (Generation III Extremism) — جيلٌ لا يسعى إلى السيطرة على الأرض، بل إلى اختراق الأنظمة الرقمية، والتأثير في الوعي الجمعي، وتجنيد المراهقين عبر وسائط الذكاء الاصطناعي التفاعلية.

كشفت تقارير “ICCT”، و”FATF”، و”Saferworld”، عن أن الجيل الثالث من التطرف يقوم على ثلاث سمات جوهرية مترابطة: اللامركزية التنظيمية القصوى التي تجعل الجماعات المتطرفة أكثر قدرة على التكيّف والاختفاء، والاعتماد الواسع على الذكاء الاصطناعي التوليدي في إنتاج الدعاية وتوجيه الخطاب وتحليل السلوك، بالإضافة إلى التمويل عبر اقتصاد الظلّ الرقمي (DeFi)، الذي يفتح ثغرات خطيرة في منظومة الرقابة المالية العالمية.

في هذا السياق، تبدو الهياكل الأمنية التقليدية عاجزة عن مُجاراة خصم شبكيّ يتحرك بخفة البيانات ويختبئ وراء الشيفرات. وهكذا، تغدو المعركة المقبلة صراعاً على حوكمة الذكاء الاصطناعي، والتمويل اللامركزي، أكثر منها مواجهة عسكرية، إذ لم يعد التطرف مشروعاً أيديولوجياً بقدر ما أصبح نظاماً معرفياً وتقنياً “معولماً” يُعيد تعريف مفهوم الأمن في القرن الحادي والعشرين.

الخطر الرقمي 

في الفضاء الرقمي، لا توجد حدود ولا سيادة. المنصّات التي بدأت كوسائل ترفيه أو تواصل اجتماعي تحوّلت، من دون قصد، إلى مختبرات تعبئة نفسية مفتوحة.

وأظهر تقرير “ICCT 2025” حول “استخدام الجماعات المتطرفة للتقنيات الرقمية في الجنوب العالمي”، أن بُنية التطرف انتقلت من “المسجد المغلق” إلى “المجتمع الافتراضي”، حيث يمكن لأي مستخدم أن يعتنق خطاباً متطرفاً خلال أسابيع قليلة عبر تكرار رمزي مقنّن. لتصبح تطبيقات الألعاب، ومنصات البث المباشر، أدوات تجنيد غير مباشرة. واللغة هنا ليست دينية بالضرورة، بل تقوم على مظلومية رقمية تتغذى من الإحباط والتمييز والاغتراب الثقافي.

في أوروبا على سبيل المثال، أشارت دراسة لوزارة الداخلية الفرنسية، إلى أن 46%من المشتبه في تأثّرهم بخطاب العنف عام 2024 كانوا دون العشرين عاماً. ويُعرف هؤلاء داخل الأوساط البحثية باسم “الفاعلين الأفراد المتأثرين رقمياً” – وهم فئة لا تنتمي تنظيمياً إلى أي حركة، لكنها تتبنى خطابها، وتنفّذ أفكارها ضمن بيئة رقمية معولمة.

يكشف التحليل النفسي لهذه الفئة عن ثلاث سمات: العزلة الاجتماعية المتزايدة بعد جائحة “كوفيد-19″، والاعتياد على ثقافة البثّ المباشر التي تمزج بين العنف والاعتراف الذاتي، وغياب المرجعية الأخلاقية المشتركة في عالم مفتوح بلا سلطة رمزية واضحة. هذه العناصر، جعلت من الإنترنت حاضنة لتطرّف جديد، أقلّ أيديولوجية وأكثر عبثية، تُعبّر عنه رموز وشعارات وأغانٍ وصور، لا بيانات سياسية أو دينية.

التمويل اللامركزي

وراء كل فكر متطرف منظومة تمويل متطورة. يصف تقرير “FATF 2025” الوضع بعبارة دقيقة: “لقد خرج التمويل الإرهابي من البنوك إلى البلوكتشين”. هذا التحوّل يعني ببساطة أن الرقابة المالية التقليدية فقدت أدواتها أمام ثورة الأصول المشفّرة.

وبين عامي 2020 و2024، قُدّر حجم التحويلات المرتبطة بنشاطات عالية الخطورة عبر العملات المشفرة بأكثر من 2.5 مليار دولار سنوياً – مبلغٌ لا يشكّل سوى 0.01% من إجمالي السوق الرقمية، لكنه كافٍ لتغذية شبكات التجنيد واللوجستيات.

تكمن الخطورة كذلك في التمويل المجهري (Micro-Financing of Extremism)، من خلال تبرعات صغيرة – أحياناً أقل من 10 دولارات – تُرسَل من حسابات فردية إلى محافظ رقمية موزعة، دون أن يُدرك المرسل أو المستقبل طبيعة النشاط الحقيقي.

وأشار أحد تقارير “UAEFIU”، إلى أن ما يقارب 397 بلاغاً عن معاملات مشبوهة في المنطقة العربية، بين 2021 و2024، تضمنت تحويلات عبر قنوات غير مصرفية، منها 104 حالات تؤكد ارتباطها بتمويل عمليات دعاية متطرفة. والتمويل هنا ليس مجرد نقل أموال، بل تغذية رمزية، أي أن كل تبرع يُمثل مشاركة في “الهوية الجماعية الافتراضية”.

في المقابل، تحاول المؤسسات الدولية مجاراة الواقع من خلال آليات جديدة، مثل تتبّع الأصول الافتراضية عبر الذكاء الاصطناعي، وتطوير شبكات مراقبة رقمية تشاركية بين القطاعين العام والخاص، فضلاً عن إنشاء منصّات تحذيرية تربط بين الجهات المصرفية والأمنية. لكن، كما يقول تقرير “White & Case 2025”: “كلما ازدادت الشفافية الرقمية، عظُمت قدرة المموّلين على التخفّي”.

الجغرافيا المتحوّلة

في خريطة الإرهاب الجديدة، لم تعد أفغانستان أو العراق وحدهما رمزين للعنف. اليوم، تمتدّ مناطق الخطر من الساحل الإفريقي إلى أطراف آسيا، حيث تلتقي هشاشة الدولة بانسحاب القوى الكبرى.

وبحسب “مؤشر الإرهاب العالمي 2025″، أكثر من نصف الوفيات الناجمة عن الإرهاب عالمياً لسنة 2024، وقعت في منطقة الساحل الإفريقي؛ حيث أصبحت مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، رموزاً لتحوّل عميق يُرسّخ تفكّك الدولة وتراجع التنمية، يقابله تصاعد شبكات مسلحة تملأ الفراغ. كما فتح انسحاب القوات الفرنسية عام 2023، وتراجع الوجود الأوروبي، الباب أمام صعود النفوذ الروسي عبر مجموعات أمنية خاصة، مثل “فاغنر” و”الفيلق الإفريقي”، الأمر الذي خلق مزيجاً من الحرب بالوكالة والتمرد الاجتماعي.

ووصف تقرير “Vision of Humanity” المشهد بأنه “تعايش بين التطرّف والفقر”، حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.

في سوريا والعراق، ورغم تراجع تنظيم الدولة الإسلامية، فإن التهديد لم ينتهِ. إذ تقدّر الأمم المتحدة أن نحو 38 ألف امرأة وطفل ما زالوا يعيشون في مخيماتٍ شمالي شرق سوريا (الهول والروج) بلا برامج تأهيل كافية. وهذا يعني أن المنطقة تحتضن قنبلة زمنية اجتماعية، مصنوعة من جيل كامل يعيش في حالة هوية معلّقة بين الجريمة والبراءة.

الخطر هنا ليس جغرافياً، بل ثقافي-رقمي. ففي مدن مثل برلين وباريس ولندن، يتحول الشعور بالتهميش لدى بعض الشباب ذوي الأصول المهاجرة إلى أرض خصبة لتبنّي خطاب الغضب، لا لأسباب دينية بل سياسية ووجودية. وهذا ما يسميه الباحث المغربي عبد الرحيم المنار السليمي “تطرّفٌ بلا عقيدة”، حيث يصبح التمرّد نفسه هو العقيدة.

الأمم المتحدة واللغة الأمنية الجديدة

أحد أكثر المحاور إثارة في تقرير “Saferworld 2025” هو تحليل خطاب مجلس الأمن بين عامي 2001 و2024.
الملاحظة الجوهرية كانت أن روسيا والصين تتصدران منذ عام 2015 قائمة الدول التي تُدخل مصطلحات مكافحة الإرهاب في وثائق المنظمة الأممية. فيما الولايات المتحدة تراجعت لغوياً، رغم حضورها العملياتي. وأصبح الحديث عن “السيادة الرقمية” و”الأمن المعلوماتي” جزءاً من قاموس الإرهاب الدولي.

هذا التحول اللغوي ليس بريئاً. فحين تُعرَّف الفوضى المعلوماتية كتهديد أمني، يصبح المجال مفتوحاً أمام شرعنة المراقبة الرقمية وتقييد الحريات تحت شعار الوقاية. وبعض الباحثين يُسمون هذه الظاهرة “أمننة اللغة”، أي تحويل المفاهيم العامة إلى أدوات تبرير سياسي.

في المقابل، يشهد الخطاب الأوروبي انقساماً، هل ينبغي توسيع تعريف “التطرّف” ليشمل الكراهية ضد الأقليات، أم العنف ضد المرأة؟

في يناير/كانون الثاني 2025، أعلنت وزيرة الداخلية البريطانية إيفيت كوبر رفضها لمقترح بهذا الاتجاه، مؤكدة أن “الغُلوّ المفاهيمي أخطر من نظيره الأيديولوجي”. أما في العالم العربي، فهناك دعوات لفصل الظاهرة عن البُعد الديني تماماً، وربطها بالهشاشة الجمعية وفشل العدالة الاجتماعية.

من الأمن إلى الفهم

ما يظهر من التقارير مجتمعة هو أن مكافحة التطرف لم تعد قضية أمنية أو مالية فحسب، بل مسألة معرفة. فالمجتمعات التي لا تنتج سرديات بديلة تترك المجال مفتوحاً لخطاب الكراهية كي يحتلّ الوعي المجتمعي.

ويشير باحثو جامعة أكسفورد في دراسة حديثة، إلى أن بناء “مناعة فكرية” داخل المدارس والجامعات أهمّ من أي تشريعات قمعية، وبأن “الأمن المعرفي” هو الاستثمار في الإنسان قبل أن ينحرف.

تونس والمغرب مثلاً بدأتا تجارب مثيرة في دمج التربية الإعلامية والتفكير النقدي في المناهج الرسمية لمواجهة الفكر المتطرف من منبعه. وفي دول مثل إندونيسيا والسنغال، أثبتت المبادرات الثقافية – كالموسيقى، والمسرح، والسينما القصيرة – فعاليتها في إعادة تأطير الدين والهوية ضمن سياقات إيجابية. فحين يشارك الشباب في إنتاج المعنى، لا يحتاجون إلى استيراد العنف.

وفي السّياق، ما زال الإعلام الدولي يُمارس مقاربة “التهويل والاختزال”، الأمر الذي يُعيد إنتاج الصورة النمطية للمسلم أو العربي كفاعل عنيف. ولكن التصحيح هنا يتطلب صحافة تحليلية بطيئة (Slow Journalism) قادرة على تقديم الصورة المركبة للظاهرة. ومن هنا يأتي دور بعض المنصات المتخصصة، في بناء جسر بين التحليل الأكاديمي والسرد الإنساني.

دروس التحول

تغيّرت طبيعة التهديد جذرياً؛ فلم يعد التطرف يقوم على جماعات منظّمة أو جغرافيا محددة، بل أصبح شبكة فكرية عابرة للحدود تتحرك بخفة الرمز وسرعة الفكرة. ومع هذا التحول، لم يعد الأمن وحده كافياً، إنما باتت المواجهة تتطلّب معرفة دقيقة، وعدالة اجتماعية، وتنمية مستدامة تردم الفجوات التي يتسلّل منها التطرف.

في زمنٍ أصبح فيه الفضاء الرقمي ساحة الحرب المقبلة، لا بُدّ للوقاية من أن تكون رقمية المصدر والمنهج. كما أن التمويل يظلّ خط الإمداد الخفي الذي يمنح الظاهرة طاقتها؛ فلا يمكن كسب المعركة من دون شفافية مالية عالمية تكشف مصادر الدعم وتُحصّن الاقتصاد من الاختراق. وأخيراً، تبقى الشراكات الدولية بحاجة إلى توازن لغوي وثقافيّ، أساسه التفاهم لا الوصاية، وتبادل الخبرات لا تعميم النماذج.

نعيش اليوم في عالمٍ تذوب فيه الحدود بين الحقيقة والافتراض، وتبدو الحرب على التطرف حرباً على المعنى ذاته. ولم يعد السؤال كيف نمنع العنف، بل كيف نعيد بناء الإحساس بالانتماء في مجتمعات فقدت ثقتها بالذات وبالآخر. العنف اليوم ليس فعلاً جماعياً، بل تعبيراً فردياً عن فراغ جمعي. ومهما بلغت التقنيات والأدوات الأمنية تطوراً، سيظلّ التحدي الأساسي هو الإنسان: وعيه، وإحباطه، ورغبته في أن يُسمع صوته.

معركة ضد “الجيل الثالث”

إن المعركة ضد “الجيل الثالث من التطرف” تفوق بمضمونها التحدي الأمني، لتغدو سباقاً على الحوكمة الرقمية والمالية. وقد أثبتت التنظيمات أنها أكثر مرونة وقدرة على التكيف من البيروقراطيات الدولية، كما نجحت في تحويل نقاط ضعف العولمة (الإنترنت المفتوح، والنظام المالي اللامركزي، والاستقطاب الجيوسياسي) إلى أقوى أسلحتها.

يكشف هذا التحقيق أن الفشل ليس في “العين التي تراقب”، بل في “العقل الذي يُحلل”، وفي “القانون الذي يحكم”. ولا تزال المنظومة الدولية تُفكر بمنطق “الجيل الثاني” (الدول، والجيوش، والبنوك المركزية) بينما الخصم يعمل بمنطق “الجيل الثالث” (الشبكات، والخوارزميات، والعملات المشفرة).

تغيّر قواعد اللعبة

في العقد الثالث من “الحرب على الإرهاب”، تغيّرت قواعد اللعبة جذرياً. ولم يعد التطرف تنظيماً أو جغرافيا، بل شبكة فكرية عابرة للحدود تتغذّى من الخوارزميات والفراغات الاجتماعية. ومع هذا التحوّل، بات الأمن غير كافٍ؛ فالمواجهة تتطلّب معرفة دقيقة، وعدالة اجتماعية، وتنمية حقيقية تردم الفجوات التي يتسلّل منها التطرف.

وفي زمنٍ صار فيه الفضاء الرقمي ساحة صراع، يجب أن تكون الوقاية رقمية المصدر والمنهج، وأن تُستعاد الشفافية في حركة الأموال التي تُمثل شريان الظاهرة الخفي. كما تحتاج الشراكات الدولية إلى توازن ثقافي ولغوي يقوم على التعاون لا الوصاية.

يبقى السؤال المحوري: هل تستطيع المنظومة الدولية الانتقال من ردّ الفعل الأمني إلى الوقاية الهيكلية؟ وهل يمكنها بناء إجماع دولي جديد لحوكمة الفضاء الرقمي والمالي، قبل أن ينجح هذا الجيل الهجين من التطرف في ترسيخ قواعد اشتباك يصعب تفكيكها في العقد القادم؟