ظاهرة الترامبية ليست مجرد انتخابات أو شعارات، بل أسلوب حياة وخطاب ورؤية سياسية جلبت معها تحولاً جذرياً في صفوف اليمين الأمريكي. لفهم دوافع هذه الظاهرة، جذورها الأيديولوجية، وتداعياتها على الديمقراطية، أجرت زميلتنا عاليا ديكوانتر الحوار التالي مع جيروم جامين، عالم السياسة البلجيكي المتخصص في الشؤون الأمريكية، والذي نشر مؤخراً كتابا بعنوان “لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً.. ميلاد أيديولوجيا”.
فيما يلي نص الحوار:
– على قناة “علمانية تي في”، تساءل الكاتب الصحفي جان-بول ماري: “ألسنا على أعتاب دكتاتوريات منتخبة؟” مُستشهداً بحالات نتنياهو، أردوغان، وترامب. فما رأيك؟
– جيروم جامين: هذه أنظمة تتعايش فيها عناصر ديمقراطية مع سُلطة تُمارَس بأسلوب استبدادي. وكلمة “استبدادي” هنا، أدق من “ديكتاتوري”، إذ توحي الأخيرة بانتقال السلطة إلى الأقارب كما في الأنظمة الأوتوقراطية التقليدية. الولايات المتحدة حالة خاصة؛ فرغم تصور البعض لتجانُسها، فإن واقع الولايات الخمسين مختلف تماماً، لكل منها حاكم، كونغرس، ومحكمة عليا.
الظاهرة الاستبدادية ليست عامة في كل الأراضي الأمريكية، لكنها واضحة على المستوى الفيدرالي، خصوصاً في عهد ترامب، الذي يسعى إلى الفاعلية أحياناً على حساب المؤسسات والقانون. يبدو الرئيس الأمريكي أقل ديكتاتورية منه كرجل أعمال مُحبط من البُطء المؤسساتي، حيث يتمحور استبداده حول الرغبة في الإنجاز السريع، لا التركيز على السلطة المطلقة كما عند أوربان أو أردوغان، وأبعد من ذلك عند فلاديمير بوتين.
– ما هي جذور الترامبية؟
– ظاهرة ترامب لم تولد في 2016، بل هي نتاج تحوّل يميني أوسع في المشهد السياسي الأمريكي بدأ في التسعينيات مع تزايد الاستقطاب. قبل ذلك، كان الجمهوريون والديمقراطيون يتعاونون عبر تسويات ثنائية. رئاسة بيل كلينتون، التي اعتبرها بعض الجمهوريين خيانة سياسية وأخلاقية، كانت مُحفزاً لهذا الاستقطاب. فقد أسهمت الفضائح المُرتبطة به في خلق مناخ من عدم الثقة، وظهور قنوات إعلامية مُضادة مثل “فوكس نيوز”، التي أسسها روبرت مردوخ لموازنة الإعلام المؤيد للديمقراطيين.
وعلى عكس الفكرة الشائعة، لا يدين ترامب بالكثير لرونالد ريغان، باستثناء الشعار “لنجعل أمريكا عظيمة من جديد”، أما الرائد الحقيقي للترامبية فهو بات بوكانان، وهو شخصية من المحافظين التقليديين في التسعينيات، دعا إلى أمريكا بيضاء ومسيحية ومتماسكة مع ادعاء احترام المؤسسات.
كما لعبت حركة حزب الشاي، التي نشأت رداً على باراك أوباما، دوراً محورياً أيضاً، ورفضت برامج الرعاية الاجتماعية بشدة، وحملت رسالة صارمة عن المالية العامة والأخلاقية. وأسهم رفض أوباما، المصحوب أحياناً بعنصرية كامنة، لشريحة من الناخبين بتبنّي مواقف أكثر تشدداً، ووجدت في ترامب المنبر المثالي لها.
– لماذا يجذب خطاب ترامب بعض الأقليات التي غالباً ما تكون في مرمى نيرانه؟
– لأنه يتحدث إليهم عن الجدارة والاستقلالية دون تحقير، ويُجسّد صورة رجل قوي ورب أسرة، رافضاً الرعاية الاجتماعية بوصفها شكلاً من أشكال الوصاية. وهذا الخطاب الذكوري المُرتكز على الكرامة الفردية يجذب فئات معينة من هذه المجتمعات.
– كيف ساعد الإنجيليون ترامب على الفوز؟
– الإنجيليون هم من استغلوا ترامب، وليس العكس. فرغم أسلوب حياته غير المتوافق غالباً مع القيم المسيحية، دعموه لأنه قادر على دفع أجندتهم التي تنادي بإنهاء حقوق الإجهاض، والدفاع عن الأسرة التقليدية، ورفض أيديولوجيا النوع الاجتماعي أو “الجندر”. وبتعيينه قضاة محافظين متشددين في المحكمة العليا، أظهر ترامب قدرته على تحقيق مطالبهم، مقابل دعمهم الانتخابي الحاسم له.
– هل الولايات المتحدة الآن دولة تسلطية أم مجرد ديمقراطية تحت ضغط؟
– أمريكا قبل كل شيء نظام ديمقراطي يتمتع بضوابط وتوازنات قوية، لكن الاستقطاب جعل الولاء الحزبي يفوق أحياناً احترام المؤسسات. والـ “ترامبية” جزء من تقليد سياسي قديم يُغذيه الإحباط الاقتصادي والثقافي والهوية، وهي تستفيد من دعم جهات فاعلة قوية عرفت كيف تستغلها بمهارة.
– ما الفرق بين الترامبية والمحافظين الجمهوريين التقليديين؟
– ترامب لا يحترم دائماً أسس المحافظية Conservatism، فهو يضع نفسه في المعسكر الجمهوري ويستشهد أحياناً بقيم محافظة، كالعائلة والعَلَم والوطن، لكنه يتخذ في المقابل قرارات لا تصب في إطار الديمقراطية ولا المحافظة التقليدية. لنأخذ على سبيل المثال زيادة الدين العام، لطالما تبنّى الجمهوريون مبدأ عدم تعميق العجز، وحتى ريغان نفسه صرّح بأنه يريد خفض الدين، لكن ترامب أيّد مُؤخراً قانوناً يتعارض بوضوح مع هذا التقليد المحافظ المتمثل في الحد من الديون. إن زيادة الدين لخفض الضرائب ليست توجها مُحافظا، بل هي شيء مناقض تماما! ناهيك عن تشكيكه المُتواصل ببرامج الرعاية الصحية “ميديكير” و”ميديكيد”، التي حظيت دائماً بتوافق ثنائي من الحزبين، الديموقراطي والجمهوري، ما أثار توترات حتى داخل معسكره.
– ماذا عن السياسة الخارجية، هل توجهات ترامب تندرج ضمن الخط المحافظ؟
– في الواقع، الرئيس الأمريكي قريب جداً من المحافظين التقليديين الذين يُدافعون عن شكل من أشكال عدم التدخل الخارجي، لكنه هاجم المؤسسة الجمهورية، وموظفي الخدمة المدنية والمؤسسات، واستبدل جزءاً من النخب القديمة بأخرى أكثر راديكالية وشعبوية، ساعياً إلى “تنظيف البيت”، كما يقول.
في الوقت نفسه، تجاوزت سلوكيات ترامب أسس القانون، فغالباً ما نراه يلتف على القواعد ويختبر ردود الأفعال. يتصرف أولاً، ثم ينتظر قاضياً ليوقفه. كما في فصل الأطفال عن ذويهم على الحدود المكسيكية، أو مشروع السجن المثير للجدل قرب ميامي، الملقب بـ”التمساح ألكاتراز” والذي يُذكرنا بمنطق المعسكرات السوفييتية في سيبيريا. تُمثل هذه الانتهاكات تحوّلاً جذرياً عن أي تقليد محافظ، نحو أسلوب استبدادي وشعبوي، وأحياناً عنصري. فضلاً عن أن ترامب يستخدم لغةً تجنبها القادة الجمهوريون السابقون كثيراً. فلا ريغان ولا عائلة بوش نطقوا بعبارات مثل “جميع المكسيكيين مغتصبون”، على سبيل المثال.
– ما هو دور وسائل الإعلام المحافظة، مثل فوكس نيوز، في نجاح الترامبية؟
– دورٌ هائل. ليس كونها قناة وطنية فحسب؛ بل لأنها تُبَث عبر شبكة قوية وعميقة الجذور، مرئية كانت أو مسموعة، على مستوى الولايات. من ناحية أخرى، أدى انتشار وسائل الإعلام الرقمية إلى سحق المشهد الإعلامي. فلكل معسكر الآن مصادره الخاصة للمعلومات، ولم نعد نتشارك الواقع نفسه. واستغل ترامب هذا التشتت لخلق فقاعة إعلامية حوله. حيث يرى مُؤيدوه أنه ضحية الدولة العميقة المُضطهَد، في حين يعتبره معارضوه رجل عصابات.
– هل ستؤثر الشعبوية الترامبية على السياسة في أوروبا؟
– لقد سبقت أوروبا أمريكا. ففي فرنسا، وصل جان ماري لوبان إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية عام 2002، قبل ثلاثة عشر عاماً من ترشح ترامب. وفي إيطاليا، كان سيلفيو برلسكوني النموذج الأمثل للزعيم الشعبوي: مُبتذل، وكاريزمي. مع ذلك، غيّرت الترامبية شيئاً واحداً، أزالت قيود اليمين المتطرف، وأظهرت أنه يمكن للمرء أن يكون مُبتذلاً، فظاً، عنصرياً، ويفوز!
– ماذا سيحدث بعد ترامب؟
– ترامب لا يُعوَّض بسهولة، على غرار برلسكوني، ولديه شخصية وأسلوب في العمل لا يُضاهى. من ناحية أخرى، ستبقى الترامبية، من خلال الابتذال، وازدراء المؤسسات، والخطاب المناهض للنخبة، فكل هذا قد ترسخ. وإذا كان خليفته هو نائبه الحالي، جيه دي فانس، فقد نعود إلى نزعة مُحافظة أكثر كلاسيكية، ولكن إذا جاءت شخصية متطرفة، فقد تتفاقم ظاهرة الترامبية أكثر.









