بين الذاكرة والحداثة، يوقّع بيارباولو بيتشولي في دار بالنسياغا أولى مجموعاته التي تُصالح بين المتناقضات: الإرث المعماري لكرستوبال، والجرأة الاستفزازية لديمنا، ورؤيته الخاصة لرومانسية هادئة. وسط أ لصمت المخملي لعرضه الباريسي، أهدى المصمم الإيطالي دار بالنسياغا قلباً نابضاً جديداً، يتأرجح بين الصرامة والرقة.
باريس، مساء السبت 4 أكتوبر 2025. في تلك الأمسية الباريسية، كانت للضوء نغمة ذهبية تُشبه ختام الصيف وبداية الحنين إليه. داخل المقرّ الرئيسي لمجموعة «كيرينغ»، حيث اجتمع المشاهير والنجوم المألوفة في عالم الأناقة، كان الصمت يسبق لحظة الانتظار. هناك، على منصة العرض، بدأ فصلٌ جديد من قصة «بالنسياغا» مع بيارباولو بيتشولي، الذي قدّم مجموعته الأولى للدار، في لقاء مؤثّر بين الذاكرة والحداثة.
«أريد أن أحتضن الماضي»، قال بيتشولي بهدوء بعد العرض، وكأنّ الجملة نفسها تحمل نَفَس دارٍ تُعيد اكتشاف نفسها. لم يكن يقصد العودة إلى الوراء، بل الاعتراف بالاستمرارية، وبأن الموضة – مثلها مثل الفن عموما – لا تبدأ أبدا من الصفر، بل تسير على أثر الذين مرّوا من قبل.
بيتشولي لم يأتِ ليكسر إرث بالنسياغا، بل ليُحاوره. ففي مجموعته لربيع وصيف 2026، بدت الخطوط مشدودة بصرامة هندسية تُذكّر بعبقرية المؤسس الإسباني كريستوبال بالنسياغا، بينما تلوح في الزوايا ظلالٌ من روح ديمنا المتمرّدة، التي أضفت خلال العقد الماضي لمسة الشارع والتمرد على الفخامة الكلاسيكية للدار.
القصّات كانت كالمعمار: تنانير منتفخة، فساتين ذهبية الصدر مُزدانة بورود ضخمة، معاطف ذات كتفين محدّدين بدقة. وبين هذه البُنى الصارمة، انبثقت لحظات من الانسيابية: سترات جلدية فضفاضة، قمصان بيضاء كبيرة، ولمسات من روح الشارع والحياة اليومية التي صارت جزءاً من هوية الدار.
أما الألوان، فجمعت بين النقاء الكلاسيكي للأسود والأبيض، وبين ومضات من أحمر مشبع وورديّ دافئ وأصفرٍ مُشمس، على غرار توقيع بيتشولي وبصمته المعهودة منذ بداياته في «فالنتينو». هناك حيث تعلم أن اللون، حين يُستخدم بشغف، يمكن أن يقول ما لا تقوله الكلمات.
وعندما خرج في نهاية العرض لتحية الحضور، وقف الجميع تصفيقاً. كان المشهد يشبه عودة الروح إلى بيتٍ استعاد السكينة بعد أن كان صاخباً أكثر مما يجب. وكأنّ بالنسياغا وجدت أخيراً نغمتها الهادئة بعد عقدٍ من “الضجيج” الإبداعي.
ترويض الإرث.. لا محوه
في الثامنة والخمسين من عمره، وبعد خمسةٍ وعشرين عاماً قضاها في صياغة الأنوثة الرومانسية لدى «فالنتينو»، يدخل بيتشولي إلى «بالنسياغا» بخطى واثقة وهادئة في آن. فهو يدرك أنّ الإبداع الحقيقي لا يحتاج إلى صدمة، بل إلى رؤية. وحين يتحدّث عن الذين سبقوه – نيكولا غيسكيير، ديمنا، وكريستوبال بالنسياغا – يفعل ذلك بنبرة احترام، وليس بنية القطيعة.
بيتشلولي لا يسعى إلى إلغاء بصمة ديمنا التي صنعت عصرها، بل إلى تطويعها. أن يُعيد إليها الحسّ الإنساني، وذلك البعد الشعوري الذي غاب وسط زخم المفارقات والجدل. فهو لا يصرخ عبر قصّات أزيائه، بل يهمس بالحرير والخطوط. يجعل من البساطة موقفاً جمالياً، ويصنع من الصمت بياناً ضد الفوضى. إنه، ببساطة، شاعرٌ يبث لفحة من الخفة والرقة في دارٍ لطالما كانت تتحدث بلغة الحديد والنار!
ثورة هادئة في بيت عاصف
في دارٍ ارتبط اسمها بالجدل، بسبب حملات دعائية مثيرة وتصاميم صادمة، اختار بيتشولي أن يُحدث انقلابه عبر الهدوء. ثورة بلا فوضى. نُبل بلا تعالٍ. جمال يُصغي إلى ذاته بدل أن يفرضها على الآخرين. وكأن المهمة التي حدّدها بيتشولي لنفسه هي أن يُعيد إلى الدفء إلى دار «بالنسياغا» بعد عقدٍ من التجريب البارد.
في زمنٍ يُطالب فيه السوق بالسرعة، جاء عرض بيتشولي كفعل مقاومة ناعم. مقاومة لفكرة أنّ كلّ جديد يجب أن يبدأ بالهدم. لقد ذكّر الجميع بأن المعاصَرة لا تعني القطيعة، بل الفهم العميق لما كان. وحين دوّى في القاعة الصوت المرافق للعرض – نبض قلبٍ مسموع، بدا وكأنه يهمس باسم «بالنسياغا»: «أنا ما زلت حيّة.» وبين نبضة وأخرى، ولدت بالنسياغا من جديد — لا من تحت الرماد، بل من رحم ذاكرتها. وها هي تُعيد اكتشاف ذاتها، في صمتٍ أنيق، على وقع خُطى رجلٍ يُؤمن بأن الموضة ليست فصلاً يُغلق، بل قصة تُروى كل يوم بثوبٍ جديد.




