بين دهاليز القضاء اللبناني وظلال السياسة الإقليمية، يعود اسم هنيبعل القذافي إلى الواجهة بعد تسع سنوات من الاحتجاز، إثر قرارٍ قضائيٍ بالإفراج المشروط عنه مقابل كفالةٍ قياسية بلغت 11 مليون دولار. قرارٌ أعاد خلط الأوراق بين بيروت وطرابلس الغرب، وفتح من جديد ملفّ الإمام موسى الصدر الذي ما زال أحد أكثر ألغازه استقرارًا في الذاكرة العربية.
في تطوّرٍ قضائي بارز، قرّر قاضي التحقيق اللبناني زاهر حمادة إخلاء سبيل هانيبال القذافي، بعد نحو تسع سنوات من توقيفه في لبنان بتهمة «كتم معلومات». وجاء القرار مقابل كفالةٍ مالية ضخمة تبلغ 11 مليون دولار أمريكي، مع فرض منع سفرٍ لمدة شهرين كإجراءٍ احترازي.
القرار، الذي وُصف بـ«المفاجئ»، صدر بعد جلسة استجواب مطوّلة في قصر العدل ببيروت، ليُشكّل أول بادرة ملموسة نحو إنهاء واحدة من أطول قضايا التوقيف السياسي في لبنان، وإن لم يُنفَّذ فعلياً حتى الساعة.
كفالة مالية تُثير جدلاً واسعاً
شهدت قضية هايبال القذافي تطوراتٍ مُتسارعة خلال اليومين الماضيين، بعد إعلان القضاء اللبناني الإفراج عنه بكفالةٍ مالية وُصفت بأنها تعجيزية.
فقد أعلن فريق الدفاع عزمه الطعن في القرار، معتبراً الكفالة «غير قانونية» بسبب العقوبات المفروضة على أصول القذافي، التي تمنعه من تأمين المبلغ، مُشيرين إلى أنّ موكلهم «محتجز تعسفيا» منذ عام 2015 من دون تهمة مباشرة أو محاكمة عادلة.
خلال الجلسة الأخيرة التي عُقدت بعد انقطاعٍ طويل، أُعيد القذافي إلى زنزانته بانتظار تنفيذ القرار أو تأمين الكفالة، من دون تسجيل أي خروج فعلي حتى الآن. وفي أول تعليقٍ له، وصف هانيبال القرار بأنه «بداية العدالة الإلهية التي بدأت تأخذ مجراها كما يجب».
من جانبها، عبّرت عائلة الإمام موسى الصدر عن تفاجئها بالخطوة، مؤكّدة أن هدفها يبقى معرفة مصير الإمام ورفيقيه. أما عائلة الشيخ محمد يعقوب، الذي كان برفقة الصدر، فاعتبرت القرار تدخلاً سياسياً في القضاء اللبناني.
الجلسة، التي وُصفت بـ«الدفاعية»، تطرّقت إلى منشوراتٍ سابقة لهانيبال القذافي، الذي تساءل أمام القاضي: «هل يُعقل أن أُحبس عشر سنوات أخرى بسبب كلمات؟». فيما أشار فريقه القانوني إلى تدهور حالته الصحية ومعاناته من آلامٍ في الظهر والتهاباتٍ في الرئتين ونقصٍ في الفيتامينات، ما يُعزّز مطالب الإفراج الطبي عنه.
الإفراج المشروط
أكدت مصادر قضائية لبنانية أن الإفراج لا يصبح نافذاً إلا بعد تسديد الكفالة المالية كاملة، ما يجعل الخطوة «مشروطة» وغير محسومة التنفيذ، خصوصاً أن المبلغ المطلوب يُعدّ الأعلى في تاريخ القضاء اللبناني في قضية من هذا النوع.
وبعد انتهاء الجلسة، أُعيد هانيبال القذافي إلى زنزانته بانتظار استكمال الإجراءات القانونية أو تأمين الكفالة المطلوبة. ولم يصدر أي بيان رسمي من وزارة العدل اللبنانية أو قوى الأمن الداخلي حول موعد تنفيذ قرار الإفراج حتى الآن.
خلفية القضية
يُذكر أن هانيبال القذافي أُوقف في لبنان عام 2015 بعد استدراجه من سوريا، على خلفية قضية اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه في ليبيا عام 1978. وعلى الرغم من أنه كان طفلًا آنذاك، إلا أنّ القضاء اللبناني وجّه إليه تهماً تتعلق بـ «كتمان معلومات» عن الجريمة، ما أدّى إلى احتجازه في فرع المعلومات طوال السنوات الماضية، في ظروف وصفتها منظمات حقوقية بأنها قاسية وتعسفية.
انعكاسات القرار على العلاقات اللبنانية – الليبية
يحمل قرار الإفراج عن هانيبال، ولو بشروطٍ مالية قاسية، رسائل سياسية تتجاوز البعد القضائي البحت، إذ يأتي في لحظةٍ إقليمية حساسة تشهد إعادة تموضعٍ في العلاقات العربية ـ العربية، ومساعي لطيّ ملفات النزاع القديمة التي كانت تُعوق التعاون بين العواصم العربية.
من جهة، يُعدّ القرار نافذة تهدئة بين بيروت وطرابلس الغرب، بعد أن ظلّ ملف القذافي نواة توترٍ مستمرة منذ عام 2015. الحكومة الليبية كانت ترى في احتجازه ورقة ضغط سياسية، فيما كانت السلطات اللبنانية تربط مصيره بملف الإمام الصدر.
اليوم، يفتح هذا التطور الباب أمام تطبيعٍ تدريجي للعلاقات الثنائية وربما عودة التمثيل الدبلوماسي الكامل بين البلدين، خصوصاً أن ليبيا تحتاج إلى دعمٍ لبناني في المحافل العربية لإعادة دمجها إقليمياً، فيما يسعى لبنان إلى توسيع شبكة شركائه العرب في ظل أزمته الاقتصادية الخانقة.
استحقاقات مفتوحة
في المقابل، يبقى ملف الإمام الصدر عائقاً نفسياً وسياسياً أمام أي انفتاحٍ شامل. فحركة أمل والبيئة الشيعية عموماً تعتبران أن الإفراج عن القذافي لا يعني طيّ القضية، بل يجب أن يقود إلى استئناف البحث الجدي عن مصير الإمام ورفيقيه.
وترى مصادر سياسية أن هذا القرار انعكاسٌ لرغبة لبنانية في خفض التوتر مع ليبيا من دون التنازل عن حقّ لبنان في معرفة الحقيقة حول الإمام الصدر، مُعتبرةً أن المسار القضائي الحالي يوازن بين العدالة والسياسة لكنه لا يُغلق الملف نهائياً.
أما الخبراء القانونيون فيرون أن القرار سابقة قضائية في لبنان، لأنه يجمع بين الاعتبارات القانونية والضغوط الدبلوماسية، مُشيرين إلى أن القضية تحوّلت إلى اختبارٍ لمصداقية القضاء اللبناني في التعامل مع الملفات ذات الطابع السياسي الحساس.
قضية الإمام موسى الصدر: اللغز المستمر
يُعدّ اختفاء الإمام موسى الصدر من أكثر القضايا غموضاً في التاريخ العربي الحديث. ففي 25 أغسطس 1978، وصل الصدر إلى العاصمة الليبية طرابلس برفقة الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين، بدعوة رسمية من النظام الليبي آنذاك. وبعد ثلاثة أيام، انقطعت أخبارهم بالكامل، وأعلنت السلطات الليبية لاحقاً أنهم غادروا إلى إيطاليا، وهو ما نفته التحقيقات الإيطالية لاحقاً، مُؤكدة أنهم لم يدخلوا أراضيها مطلقاً.
منذ ذلك الحين، ظلّ القائد الليبي الراحل معمر القذافي مُتهماً بتحمّل مسؤولية اختفائهم، خصوصاً أن الصدر كان على خلاف حاد معه بسبب مواقفه من دور ليبيا في الحرب الأهلية اللبنانية.
في عام 1982، أصدر القضاء اللبناني مذكرات توقيف بحق العقيد القذافي وعدد من معاونيه، ثم توسع الملف ليشمل نجله هانيبال القذافي بعد القبض عليه في لبنان عام 2015، بتهمة “كتم معلومات” تتعلق بمصير الصدر ورفيقيه.
ورغم مرور أكثر من 47 عاماً على الحادثة، لا يزال مصير الإمام الصدر مجهولاً، فيما تعتبر الطائفة الشيعية في لبنان قضيته “قضية وطنية وإنسانية غير قابلة للإسقاط”.
وبينما يتطلع الشارع اللبناني لمعرفة ما إذا كان هانيبال القذافي سيخرج فعلاً من سجنه، تبقى القضية مرآة للتعقيد اللبناني المزمن، حيث تتقاطع العدالة مع النفوذ السياسي، ويتشابك القضاء مع المصالح الإقليمية. الإفراج، إن تمّ، لن يكون نهاية قصة هانيبال القذافي في لبنان، بل بداية فصل جديد في صراعٍ طويل بين الذاكرة والعدالة، وبين الحسابات السياسية والحقوق الإنسانية.
