يدخل اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيّز التنفيذ، وسط أجواء من التفاؤل الحذر التي تسود الأوساط الدولية والإقليمية، بعد نحو أكثر من عامين من المواجهات الدامية التي خلّفت خسائر بشرية فادحة ودماراً كبيراً وأزمة إنسانية غير مسبوقة.
بين رغبة الفلسطينيين في إنهاء الكارثة الإنسانية، وتَخوّف الإسرائيليين من فُقدان الردع، وسعي الوسطاء إلى تثبيت التهدئة، يبدو هذا الاتفاق اختباراً حقيقياً للإرادة السياسية وقدرة الأطراف على تحويل الهُدنة إلى سلام مستدام.
يتضمّن الاتفاق وقفاً مرحلياً لإطلاق النار بين إسرائيل وحركة “حماس”، يترافق مع إطلاق متبادل للأسرى والمحتجزين، وانسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية من بعض مناطق القطاع إلى خطوط متفق عليها، إلى جانب فتح ممرات إنسانية لتسهيل دخول المساعدات الغذائية والطبية.
ومن المقرر أن تبدأ الجهات الراعية بتنفيذ البنود الأولى خلال الساعات المقبلة، على أن تتبعها مراحل لاحقة تهدف إلى تثبيت التهدئة وتهيئة الأجواء لإعادة الإعمار.
حماس: ترحيب حذر وتحفّظ على الترتيبات اللاحقة
رحّبت حركة “حماس” بدخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، مُؤكدة في بيان رسمي أنها تتعامل مع الهدنة “بمسؤولية وإيجابية” بما يخدم مصلحة الشعب الفلسطيني، لكنها شَدّدت في الوقت نفسه على ضرورة التنفيذ الفوري والمتزامن لجميع البنود دون مُماطلة أو تأخير من الجانب الإسرائيلي.
وأوضحت الحركة أنها وافقت على المرحلة الأولى من الاتفاق التي تتضمن وقف النار وتبادل الأسرى، لكنها أكدت أن هذه الخطوة يجب أن تترافق مع انسحاب القوات الإسرائيلية وفتح ممرات المساعدات بالكامل. كما أبدت تحفظها على بعض الترتيبات الأمنية والإدارية المُقبلة في غزة، مُؤكدة أن أسلحة المقاومة ليست محل تفاوض، وأن أي نقاش حول مستقبل القطاع يجب أن يتم في إطار وطني جامع وبضمانات عربية ودولية.
السلطة الفلسطينية : دعم الهدنة وتأكيد الشرعية
من جهتها، تتبنّى السلطة الفلسطينية موقفاً يدعو إلى وقف فوري وشامل لإطلاق النار وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة، مُؤكدة استعدادها لتولي مسؤولياتها الإدارية والأمنية في القطاع، بما يشمل إدارة المعابر وإعادة الإعمار. وتؤكد أن غزة جزء لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية المُحتلة، وترفض أي ترتيبات تُقصيها أو تمسّ سيادتها. كما تطالب بتثبيت الهدنة وتحويلها إلى اتفاق دائم يضمن دخول المساعدات وعودة النازحين، مع التمسك بحل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية.
في المقابل، تبدي السلطة تحفّظاً على بعض المقترحات المُتعلقة بمستقبل إدارة القطاع، مُحذّرة من أي محاولات لتهميشها أو تهجير الفلسطينيين. وتعمل في الوقت نفسه على حشد دعم عربي ودولي لتثبيت دورها في أي ترتيبات سياسية أو أمنية مقبلة، مع التأكيد على ضرورة ألّا تُستغَلّ الهدنة لتعزيز نفوذ “حماس” من دون رقابة.
إسرائيل: استعداد مشروط وضغوط داخلية
في المقابل، أبدت إسرائيل استعداداً مشروطاً لتنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، مُؤكدة أن المُصادقة النهائية ستُعرض على الحكومة والمجلس الأمني. وعلى الرغم من الإعلان عن الاتفاق، تُواصِل القوات الإسرائيلية تنفيذ ضربات محدودة وبالتوازي مع إعادة تموضع تدريجي ضمن خطوط سيجري التوافق عليها لاحقاً.
ويُواجه الاتفاق مُعارضة قوية داخل الحكومة الإسرائيلية، خصوصاً من التيارات اليمينية المُتشددة التي تعتبره “هدنة مجانية” قد تُتيح لـ”حماس” إعادة بناء قوتها. وتُحاول الحكومة المُوازنة بين أهدافها الأمنية، مثل إخراج الرهائن وتقويض قدرات الحركة الإسلامية، وبين الضغوط الدولية والمطالب الداخلية بإنهاء الحرب. كما تتمسك بشروط تتعلق بالمرحلة المُقبلة تشمل الرقابة الدولية ومستقبل إدارة غزة وضمان عدم استفادة “حماس” من الهدنة.
الولايات المتحدة: وساطة حاسمة
تلعب الولايات المتحدة دوراً محورياً في تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس”، إذ أعلن الرئيس دونالد ترامب أن الطرفين وافقا على تنفيذ المرحلة الأولى من خطته للسلام التي تم التوصل إليها بوساطة أمريكية – مصرية في القاهرة.
واشنطن أكدت دعمها الكامل للاتفاق، لكنها شَدّدت في الوقت نفسه على ضرورة الالتزام الصارم ببنوده، مُحذّرة من “عواقب خطيرة” إذا جرى خرق الهدنة. كما دعا ترامب إلى تسريع تنفيذ البنود الإنسانية، خصوصاً فتح الممرات لتدفق المساعدات والإفراج عن الرهائن.
في المقابل، يرى مراقبون أن الموقف الأمريكي يُظل مشروطاً بتحقيق أهداف أمنية وسياسية مُحدّدة، أبرزها منع “حماس” من إعادة بناء قدراتها العسكرية وضمان أمن إسرائيل، ما يجعل الدعم الأمريكي مرهوناً بمدى التزام الطرفين وتنفيذ الاتفاق بالكامل على الأرض.
ترحيب دولي وإقليمي
أشاد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بالاتفاق، واصفاً إياه بأنه “خطوة أولى ضرورية لوقف المأساة الإنسانية في غزة”، داعياً الأطراف إلى الالتزام الكامل ببنوده واستثمار الهدنة لإطلاق مسار سياسي جاد. أما الاتحاد الأوروبي، فأعرب عن أمله في أن يُشكّل الاتفاق مدخلًا لإطلاق عملية سلام شاملة تُؤدي إلى حلّ الدولتين واستعادة الاستقرار في المنطقة.
تحديات التنفيذ والعقبات الميدانية
على الرغم من التفاؤل والأجواء الإيجابية، إلا أن الاتفاق يواجه تحديات ميدانية وسياسية معقّدة قد تُهدده بالانهيار، ومن أبرزها:
- احتمال تعثّر التنفيذ في حال تعرض أحد الطرفين لضغوط داخلية أو أمنية.
- استمرار السيطرة الإسرائيلية على بعض المواقع الاستراتيجية على الرغم من الانسحاب الجزئي.
- غياب آلية رقابة دولية فعّالة تُوثّق الالتزام وتردع الخروقات.
- إمكانية وقوع خروقات ميدانية من فصائل صغيرة قد تُعيد التوتر.
- الغموض حول المرحلة التالية وما إذا كانت ستشمل ترتيبات سياسية أو أمنية أوسع.
ويرى مُحللون أن غياب الثقة المتبادلة يجعل احتمال انهيار الاتفاق وارداً في أي لحظة، خصوصاً إذا وقعت حوادث ميدانية أو تصعيدات محلية يصعب السيطرة عليها.
انقسامات وضغوط متبادلة
تُواجه الحكومة الإسرائيلية انقساماً داخلياً حاداً، بينما يعيش الشارع الفلسطيني حالة ترقّب وأمل بتحسين المعيشة ورفع الحصار. هذا التباين في المزاج الشعبي بين طرفي الصراع يضع كليهما تحت ضغط جماهيري مُتضاد قد يصعّب تثبيت الهدنة على المدى الطويل.









