ثقافة

“هندسة الذاكرة”: التراث بوصفه مشروعاً سياسياً

بقلم محمد الكرمي
بقلم محمد الكرمي

مع تسارع الحداثة الرقمية والاقتصادية، تلجأ دول عربية وغربية مُؤثرة إلى أعمق نقاط تاريخها — ليس من أجل تنويع الاقتصاد أو جذب السياحة فحسب، بل لبناء سرديات جديدة حول من نحن، وكيف نريد أن نتذكّر أنفسنا. هذه العملية، التي يمكن تسميتها بـ “هندسة الذاكرة”، تتجاوز حدود المتاحف والترميم، لتتحول إلى مشروع سياسي رمزي، يُعيد تعريف الهوية الوطنية في زمن ما بعد الأيديولوجيات الكبرى.

 هل يُمثّل هذا الاستثمار الضخم في التراث مساراً لتجديد المواطنة وبناء الثقة، أم أنه آلية ناعمة لإعادة إنتاج الطاعة والإجماع حول الدولة القُطرية؟

التراث… استثمار اقتصادي أم سياسي؟

في الخطاب الرسمي السائد لدى عدد من الدول العربية، تُقدَّم المشاريع التراثية الكبرى بوصفها ركيزة لرؤية ثقافية واقتصادية شاملة، تهدف إلى ربط الماضي بالمستقبل عبر استثمار الرموز التاريخية في التنمية والسياحة والثقافة.
تؤكد البيانات الحكومية عادةً أن هذه المبادرات تسعى إلى إحياء الهوية الوطنية، وتعزيز الانتماء الثقافي، وتنويع مصادر الدخل. بلا شك، تبدو هذه الحجة منطقية وجذابة. يُعد التراث، من حيث المبدأ، رافعة اقتصادية وثقافية يمكن أن تخلق فرص عمل وتدعم الصناعات الإبداعية.

لكن خلف هذا الخطاب التنموي، تبرز طبقة أعمق من الدلالات السياسية. كون المسألة غير مرتبطة بحفظ التراث فحسب، بل بعملية اختيار واعية لما يجب تذكّره وما يجب تركه للنسيان.


إن رفع فترات معينة من الماضي إلى مرتبة “الهوية الوطنية”، مع تهميش حقب أخرى أكثر التباساً أو صراعاً، يعكس ما يمكن تسميته بـ “هندسة الذاكرة” — حيث يُعاد بناء الماضي بما يخدم سردية الدولة الحديثة واحتياجاتها الرمزية الراهنة.
يكمن الجواب هنا بما وصفه المؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم، عبر مفهوم “اختراع التقاليد” (1983)، حيث يُعاد بناء الماضي بطريقة انتقائية تخدم أهداف الحاضر.

الانتقائية التاريخية وهندسة الهوية

تبدو هذه الانتقائية واضحة في الطريقة التي تُعرض بها الهوية الوطنية الجديدة: هوية محلية، ضيقة ومُتصالحة مع السوق العالمي. حين كانت العقود السابقة تحتفي بانتماءات عابرة للحدود، كالقومية العربية، ركزت “الهوية التراثية” الجديدة على سرديات محلية قديمة، تُقدَّم كجذور وطنية “خالصة”.
هذا التحوّل، كما يُلاحظ بعض الباحثين، هو إعادة ترسيم للولاءات الرمزية، من الانتماء إلى الأمّتين “العربية” أو “الإسلامية”، إلى الولاء الحصري للدولة الحديثة وقائدها. بمعنى آخر، يتم تحويل التراث إلى لغة سياسية جديدة للولاء، حيث تصبح الرموز الأثرية، كالقصور، والمعابد، والنقوش، وحتى الأزياء، أدوات لإعادة بناء الذاكرة الجماعية وفق ما يخدم الاستقرار السياسي المعاصر.

أماكن الذاكرة… وسلطة الصورة

يصف المؤرخ الفرنسي بيير نورا في عمله “أماكن الذاكرة” (1984)، كيف تتحول المواقع التاريخية إلى رموز مشحونة بالدلالة السياسية. في العالم العربي اليوم، يتخذ هذا المفهوم شكلاً جديداً: المواقع التراثية لم تعد مجرد فضاءات للذاكرة، بل أضحت منتجات ثقافية قابلة للتسويق.
إنه تاريخ معقد ومليء بالصراعات يُختزل في مشهد جمالي، مثل عرض ضوئي، أو مهرجان موسيقي، أو حملة دعائية لموقع أثري على “إنستغرام”. وهذه الجماليات ليست بريئة، فهي تعيد تشكيل علاقة الفرد بالتاريخ، من التأمل والمساءلة إلى علاقة الاستهلاك والانبهار. وهنا لا يُستخدم التراث لاستعادة النقاش حول العدالة أو الهوية، إنما لتوفير خلفية رمزية لواقع سياسي ثابت.

التراث بعد الربيع العربي

لفهم هذه الظاهرة أكثر، يجب ربطها بسياق أحداث 2011 وما بعده. في العقد الذي تلا الانتفاضات العربية، بدا أن الأنظمة التي نجت من الانهيار السياسي اختارت استبدال الجواب السياسي بالجواب الثقافي. وبدلاً من فتح المجال العام للمشاركة، جرى تحويل الانتباه نحو مشاريع ضخمة في الثقافة والتراث والفنون. وبهذا، تُقدَّم “الهوية” كبديل شرعي عن “السياسة”، و”الذاكرة” باتت علاجاً للانقسام، و”الماضي” ملاذاً من الحاضر المربك.

إنه ما يسميه بعض الباحثين “الإجماع السلبي”… وهو قبول جماعي قائم على الانبهار لا الاقتناع، وعلى الفخر الرمزي لا المشاركة الفعلية.

التراث كعلاج رمزي

مع ذلك، من المهم ألا نسقط في فخ القراءة الأحادية. ففي بعض الحالات، قد لا يكون توظيف التراث مشروعاً سلطوياً بقدر ما هو محاولة لإعادة بناء الثقة بعد الصدمات السياسية والاجتماعية. ولأن “الحداثة العربية تحتاج إلى وسيط رمزي بين الماضي والمستقبل”، يمكن النظر إلى “الهندسة الثقافية” بوصفها آلية لملء الفراغ الرمزي الذي خلّفه سقوط الأيديولوجيات الجامعة، لا مؤامرة ضد الوعي. ففي المتاحف الجديدة، والمشاريع الأثرية الكبرى، والمهرجانات الفنية العابرة للحدود، قد تكون هناك أيضاً مساحة لتصالح رمزي بين الدولة والمجتمع، ومحاولة لإنتاج معنى مشترك في زمن التفكك.

لكن يبقى السؤال، من يُحدد هذا المعنى؟ ومن يملك حق السرد؟

إن لم يُفتح المجال لمشاركة مجتمعية حقيقية في تعريف الهوية، ستظل هذه المشاريع عرضة لأن تتحول من رموز للانتماء إلى أدوات للتوجيه الثقافي الفوقي.

نحو ذاكرة نقدية لا تذكارية

ما بين “اختراع التقاليد” و”هندسة الذاكرة” تقف معضلة عربية عميقة، وهي كيف نصالح بين الذاكرة والتاريخ؟ فالتاريخ كما يُقال، “مختبر نقد لا مخزون أمجاد”. وعندما يتحول التراث إلى مجرد رموز تذكارية، يفقد قيمته ووظيفته التربوية والتحليلية، ويصبح وسيلة لتجميد الوعي بدلاً من تحريره. 

المطلوب اليوم، ليس الإكثار من المتاحف أو المهرجانات، بل توجيه هذه الاستثمارات الرمزية نحو أدوات تفكير جماعي، بحيث نستخدم الذاكرة لفهم أخطائنا، لا لتزيين حاضرنا.