في فرنسا، لم يعد النفوذ السياسي بمنأى عن المحاسبة، ولا رموزه بمنزّهين عن المساءلة. فكما طالت التحقيقات مستشاري القصر الرئاسي ومقرّبيهم، امتدت كذلك إلى الرؤساء ورؤساء الحكومات الفرنسيين، الذين خضعوا بدورهم إلى دوائر التحقيق القضائي، في مشهد يعيد طرح السؤال الأزلي: أين تنتهي حدود السلطة، وأين تبدأ مسؤولية الحكم؟
في تحول تاريخي غير مسبوق، بدأ الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي الثلاثاء 21 أكتوبر 2025 تنفيذ حكم بالسجن لمدة خمس سنوات بعد إدانته بتهمة التآمر الجنائي للحصول على تمويل غير قانوني من النظام الليبي السابق لدعم حملته الانتخابية عام 2007.
يُعد ساركوزي أول رئيس فرنسي سابق يُسجن منذ الحرب العالمية الثانية، ما يمثل سابقة بارزة في تاريخ الجمهورية الخامسة يُعيد تعريف العلاقة بين السلطة والقانون. هذه الواقعة لم تكن مُجرد حدث قضائي، بل انعكاس لتحوّل تاريخي في الثقافة السياسية الفرنسية، حيث لم يعد الرئيس بمنأى عن المساءلة مهما علا منصبه.
الجمهورية الخامسة والحصانة الرئاسية
تاريخ المحاكمات الرئاسية في فرنسا يعود إلى تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958 على يد الجنرال شارل ديغول، الذي أرسى نظاماً شبه رئاسي منح الرئيس سلطة كبيرة وهيبة شبه مُطلقة، مع حماية قانونية واسعة تُعرف بالحصانة الرئاسية.
ديغول، الذي اعتبر نفسه تجسيدا للأمة الفرنسية، لم يُخضع لأي تحقيق قضائي خلال ولايته، وأرسى مبدأ “الشرعية فوق القانون”. تبعه جورج بومبيدو (1969–1974) الذي لم يواجه مساءلة مباشرة، بينما شهد عهد فاليري جيسكار ديستان (1974–1981) أول خرق رمزي في جدار الهيبة حين وُجهت إليه اتهامات بتلقي هدايا ثمينة من إمبراطور إفريقيا الوسطى جان بيدل بوكاسا، لكنها لم تصل إلى القضاء بسبب غياب الأدلة، إلا أن الواقعة فتحت الباب أمام التشكيك الأخلاقي في الرئاسة وبدأ النقاش العام حول حدود السلطة الرئاسية.
فضائح ميتران وشيراك: بداية المساءلة القضائية
فرانسوا ميتران، أول رئيس اشتراكي للجمهورية الخامسة (1981–1995)، تورطت فترة حكمه بقضية التنصت غير القانوني على الصحفيين والمعارضين عبر جهاز الأمن الرئاسي. بعد وفاته عام 1996 أغلقت الملفات، لكن الحادثة تركت أثراً دائماً في الذاكرة السياسية الفرنسية ووضعت أُسساً لمفهوم مساءلة الرؤساء بعد نهاية ولايتهم.
أما التحول الحقيقي فجاء مع جاك شيراك (1995–2007)، الذي دخل التاريخ عام 2011 كأول رئيس فرنسي يُدان قضائياً بعد مغادرته الإليزيه، إثر قضية التوظيفات الوهمية أثناء توليه منصب عمدة باريس في الثمانينيات. حيث حكمت المحكمة عليه بالسجن سنتين مع وقف التنفيذ، مؤكدة أن الرئيس السابق لم يعد فوق القانون وأن فكرة مساءلة الرؤساء أصبحت واقعاً ملموساً في السياسة الفرنسية.
ساركوزي: المحاكمة الكبرى
العاصفة الكبرى حملت اسم نيكولا ساركوزي، الذي حكم فرنسا بين 2007 و2012 ووجد نفسه في قفص الاتهام في مشهد غير مسبوق. بدأت سلسلة قضاياه بقضية التنصت، حيث حاول التأثير على قاضٍ مقابل وعد بمنصب، ثم قضية بيغماليون المرتبطة بتمويل حملته الانتخابية، وأخيراً قضية التمويل الليبي التي ما زالت مفتوحة، مُتهمةً إياه بتلقي الملايين من نظام القذافي لدعم حملته الرئاسية.
دخل ساركوزي سجن “لا سانتيه” في باريس لتنفيذ حُكمه بالسجن خمس سنوات، ليصبح أول رئيس فرنسي سابق يُسجن منذ الحرب العالمية الثانية. يقضي ساركوزي عقوبته في زنزانة مساحتها 11 متراً مربعاً في قسم العزل الانفرادي، مع تجهيزات خاصة وإمكانيات محدودة للاتصال والزيارات، فيما وُضع حارسان شخصيان في زنزانة مجاورة للسهر على سلامته.
يُتوقع أن يستمر احتجاز ساركوزي ما بين ثلاثة أسابيع إلى أربعة أشهر، لحين النظر في طلب الإفراج المؤقت عنه، وقد يبقى حتى محاكمته في الاستئناف عام 2026. مع العلم بأن سجن “لا سانتيه” يُعدّ آخر سجن داخل مدينة باريس ومعروفاً باستقبال السجناء المشهورين، ليكون المكان رمزياً في سجل مساءلة كبار المسؤولين الفرنسيين.
في 25 سبتمبر 2025، أصدرت المحكمة الجنائية في باريس حكماً بإدانة ساركوزي بتهمة التواطؤ الجنائي، لعقد اتفاق سرّي مع معمر القذافي عام 2005 لضمان تمويل حملة ساركوزي الانتخابية مقابل دعم الحكومة الفرنسية لنظام القذافي على الساحة الدولية. وقد دخل ساركوزي فعليا إلى سجن “لا سانتيه”، الثلاثاء 21 أكتوبر، بينما قدّم فريق دفاعه طلباً للإفراج المؤقت لحين النظر في الطعن المُقدّم ضد الحكم.
سِجن ساركوزي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية الفرنسية، ورأى البعض فيه علامة فارقة تعكس مبدأ المساواة أمام القانون، بينما وصفه آخرون بأنه ذو دوافع سياسية، مُؤكدين أنه يضع معايير جديدة للرقابة على السلطة.
هولاند وماكرون واستمرار ثقافة المساءلة
بعد ساركوزي، لم يكن فرانسوا هولاند (2012–2017) بعيداً عن دائرة المساءلة، على الرغم من عدم محاكمته، إذ واجه تسريبات حول حياته الشخصية، وكشف أسرار دفاعية في كتابين صدرا عنه، ما أثار نقاشاً واسعاً حول أخلاقيات المنصب وحدود السرية الرئاسية.
أما الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، فقد دخل في تحقيق أولي عام 2022 حول ملابسات إدارة حملاته الانتخابية من قبل شركة استشارات أميركية، ما يُؤكد أن الرئاسة لم تعد منطقة محظورة على القضاء.
اليوم تُثبت فرنسا أن المساءلة الرئاسية أصبحت جُزءاً من الحياة الديمقراطية، وأن العدالة تظل أداة التوازن بين السلطة والمساءلة، فالهيبة الحقيقية للدولة تُقاس بجرأة القضاء على مساءلة المسؤولين.
رؤساء الحكومات: مساءلة أقل شدة
لم تكن المُساءلة محصورة بالرؤساء فقط، حيث خضع رؤساء الحكومات الفرنسيون أيضاً لتحقيقات قضائية، وإن بدرجة أقل. إدوار بالادور، رئيس الحكومة بين 1993 و1995، واجه اتهامات بالفساد المالي تتعلق بمناصب حزبية، وأدين جُزئياً في قضايا الوظائف الوهمية، لكنه لم يُسجن.
فرانسوا فيون، رئيس الوزراء بين 2007 و2012، تورط لاحقاً في قضية الوظائف الوهمية المتعلقة بزوجته، ما أدى إلى انهيار حملته الرئاسية عام 2017. كما تعرض ميشيل روكار وبيار موروا لفضائح فساد ومالية، لكن العقوبات كانت غالباً مالية وإدارية لم تصل إلى السجن.
مساءلة الرؤساء
مساءلة الرؤساء الفرنسيين أصبحت ممكنة نتيجة تغييرات تشريعية ودستورية مهمة. قبل عام 1999، كان الرئيس يتمتع بحصانة مُطلقة خلال ولايته، ولا يمكن مُقاضاته إلا بعد انتهاء فترة رئاسته. لكن تعديل الدستور الفرنسي في 2007 أنهى هذا الوضع، وأقر مبدأ المحاسبة القضائية للرؤساء السابقين عن أي أفعال ارتكبوها قبل أو أثناء ولايتهم.
تم إنشاء محكمة خاصة تُسمى “المحكمة العليا للجرائم المالية للرؤساء”، وتعمل تحت إشراف القضاء العادي، لكنها تُركز على الجرائم المرتبطة بالفساد المالي والتمويل الانتخابي والاتفاقات غير القانونية، ما يعكس حرص النظام على تحقيق التوازن بين السلطة التنفيذية والقضاء.
بالإضافة إلى ذلك، عزّز القانون الفرنسي استقلال النيابة المالية ووسائل الإعلام الاستقصائي في مراقبة أعمال الحكومة والرؤساء، مما جعل المُساءلة القضائية أكثر شفافية وفعالية، وأدخل بُعداً أخلاقياً إلى الحياة السياسية الفرنسية.
من الهيبة إلى الشفافية
من الإليزيه إلى المحكمة، تُظهر فرنسا اليوم مساراً ديمقراطياً واضحاً حيث القانون فوق الجميع، ولا أحد مهما علا منصبه فوق مساءلة العدالة. لقد تحوّلت الجمهورية الخامسة من عهد الهيبة المُطلقة للرئاسة إلى زمن الُمساءلة والشفافية، حيث أصبحت تجربة ساركوزي وحالات شيراك وغيره رموزاً لمرحلة جديدة في تاريخ الديمقراطية الفرنسية، تؤكد أن العدالة والسيادة القانونية أهم من المناصب والشخصيات.











