تحليل سياسي

من الإخوان المسلمين إلى داعش.. كيف تُزرَع بذور الفكر المتطرف في الفضاء الأوروبي؟

بقلم آدمز وايت
بقلم آدمز وايت

لم تعد ظاهرة التطرّف في أوروبا قضية أمنية محض، بل تحوّلت إلى ميدان صراع على الهيمنة الفكرية والسياسية داخل المجتمعات الغربية. فمن النشاط الدعائي غير الظاهر للعيان لجماعة الإخوان المسلمين، الساعي إلى إعادة تشكيل النسيج الاجتماعي من الداخل، إلى العنف المعلن الذي تمارسه التنظيمات الجهادية، تتقاطع استراتيجيات متعددة توظّف الدين لتأطير الغضب والهشاشة.
والسؤال الجوهري هنا: هل تكمن المشكلة في الإيديولوجيا الوافدة، أم في أزمة الهوية التي يعانيها الغرب نفسه؟

استراتيجيات الهيمنة: فيمَ يختلف مشروع «الإخوان» عن عنف «داعش»؟

وضع جميع أطياف الإسلام السياسي في خانة واحدة خطأ تحليلي فادح. فالاختلاف بين مشروع جماعة الإخوان المسلمين ومشروع تنظيم داعش ليس اختلافاً في الدرجة، بل في الجوهر. فالأولى تسعى إلى اختراق المجتمع تدريجيًا عبر الهيمنة الثقافية والمؤسساتية، بينما تراهن الثانية على القطيعة والعنف بوصفهما طريق الخلاص.

تعمل جماعة الإخوان في أوروبا تحت واجهات مؤسساتية – جمعيات ومدارس ومراكز ثقافية – تُقدّم خدمات اجتماعية ظاهرها الاندماج، لكنها تعيد في الوقت ذاته تشكيل مفهوم الهوية الدينية كبديل للانتماء الوطني. وتشير تقارير هيئة حماية الدستور الألمانية (Verfassungsschutz) إلى أن الجماعة تدير شبكة واسعة من المراكز التي تروّج لما تُسميه الأجهزة الأمنية «إسلامًا سياسيًا ناعمًا» يهدف إلى بناء مجتمع موازٍ داخل الدولة.

ويرى الباحث الفرنسي البارز جيل كيبل أن الإخوان يسعون إلى النفوذ لا إلى الصدام، وإلى أسلمة البنية المدنية من الداخل، معتبرًا أن خطورتهم تكمن في «الاعتدال الأدائي» الذي يخفي مشروعًا طويل الأمد لتغيير علاقة الدين بالدولة.

في المقابل، تنطلق الجهادية من عقيدة القطيعة الكاملة: ترفض المؤسسات والديمقراطية والشرعية، وتحوّل الغضب إلى طاقة تدميرية. وهو ما يصفه هوغو ميشرون، وهو بدوره باحث فرنسي مرموق في مجال الإسلاميات، بأنها ظاهرة « راديكالية بلا مشروع سياسي، لكنها جذّابة لأنها تمنح المهمّشين بطولة فورية».

الجهادية الرقمية: حين تتحول الشبكة إلى مصنع للهوية المتطرفة

أتقنت التنظيمات الجهادية تحويل الفضاء الرقمي إلى ساحة حرب نفسية تتجاوز حدود الجغرافيا. وتشير تقارير “يوروبول” حول حالة واتجاهات الإرهاب (EU TE-SAT) لعام 2024 إلى أنّ الدعاية الجهادية انتقلت من نموذجها المركزي القديم إلى نموذج لامركزي يعتمد على تطبيقات مشفّرة مثل تلغرام وRocket.Chat. هناك، لا يُنشر الخطاب فقط، بل تُتداول أدلة عملياتية لتصنيع المتفجرات وتنفيذ هجمات «الذئاب المنفردة».

لقد أصبحت الجهادية الجديدة مُنتَجًا ثقافيًا موجهًا للشباب: فيديوهات قصيرة، مؤثرات بصرية مستوحاة من ألعاب الفيديو، وسرديات بطولية تجعل العنف يبدو كأنه «خلاصٌ جماليّ». وتشير دراسة صادرة عن «المركز الدولي لمكافحة الإرهاب» (ICCT) إلى أنّ الخوارزميات الرقمية تخلق «غرف صدى» تعزل المستخدمين عن الواقع، وتُسرّع عملية التحول إلى التطرّف خلال أسابيع قليلة. بهذا المعنى، لم تعد وسائل التواصل مجرد أدوات تفاعل، بل مصانع لإنتاج الهوية الجهادية.

أزمة الهوية: هل التطرّف أسلمة للراديكالية أم راديكالية للإسلام؟

يرى المفكر الفرنسي أوليفييه روا المتخصص في قضايا الإسلام الحركي أن التطرّف ليس ناتجًا عن تدين مفرط، بل عن تمرد وجودي فقد بوصلته. فالشباب الأوروبي الذي ينخرط في الجهادية لا يبحث عن الله، بل عن المعنى. إنهم أبناء الضواحي المهمّشة، ضحايا البطالة والتمييز، الذين يجدون في الخطاب الجهادي إطارًا كونيًا لتمردهم.

من جهته، يؤكد أخصائي علم الاجتماع السياسي الفرنسي برنار روجييه في كتابه “الأراضي المحتلة من قبل الإسلاموية” أن بعض الأحياء الفرنسية تحوّلت إلى «أنظمة بيئية إسلاموية» مغلقة، تُعيد تعريف القيم والعلاقات الاجتماعية بمعزل عن الدولة.

بخصوص هذه البيئات الإسلاماوية، تتقاطع أفكار روا وروجييه: فالتطرّف ليس نتيجة دعوة ناجحة بقدر ما هو نتيجة دولة فاشلة في إنتاج الانتماء.

فشل الدولة: كيف تُسهم السياسات الأوروبية في تفاقم الأزمة؟

تساهم السياسات الحكومية الأوروبية – ولا سيما في فرنسا – في تغذية الأزمة بدل حلها. فالنموذج الصارم للعلمانية (Laïcité)، الذي يهدف إلى تحييد الدين، يُنظر إليه من قبل شرائح واسعة من المسلمين كأداة إقصاء. وحظر الحجاب والرموز الدينية يُفسَّر على أنه استهداف مباشر للمسلمين، في حين أنه يهدف فقط إلى التصدي للتطرف الديني. لكن فشل السلطات في إيضاح ذلك يمنح الخطاب الإسلاموي مادة دعائية جاهزة عن مظلومية «الإسلام المقموع والمتآمَر عليه».

وفقا لتقرير مركز Pew Research الأمريكي لعام 2023، يرى 68% من  مسلمي فرنسا أن الدولة «تعادي الإسلام». وتُظهر بيانات اللجنة الأوروبية لمحاربة العنصرية واللاتسامح ECRI 2024 أن معدلات البطالة بين الشباب المسلمين تبلغ ضعف المعدل الوطني، وأن تمثيلهم السياسي يكاد يكون منعدمًا. وفي ظل هذا التهميش، تصبح الجهادية لغة احتجاج ضد دولة لا تسمع.

أما السياسة الخارجية الأوروبية، فهي بدورها تغذّي السرديات الجهادية: من العراق إلى فلسطين، تُقدَّم التدخلات الغربية كدليل على ازدواجية المعايير. ويؤكد تقرير المؤتمر الدولي للروبوتات الاجتماعية ICSR لعام 2023 أن صور الدمار في الشرق الأوسط شكّلت أحد أقوى أدوات التجنيد الرقمي. وهكذا يتقاطع الإحباط الداخلي مع الغضب الخارجي لتتشكل «هوية المظلومية» التي يوظفها المتطرفون بمهارة.

ما وراء الحل الأمني: معركة السرديات لا المعارك المسلحة

أدركت أوروبا – متأخرة – أن المعركة مع التطرّف ليست أمنية بل معرفية. فالتنظيم يمكن تفكيكه، لكن الفكرة لا تُعتقل. وما لم تُبنَ سردية فكرية بديلة تُقنع الشباب بأن قيم الحداثة والعلمانية ليست ضد هويتهم، ستظل الدعاية الجهادية أكثر جاذبية.

تشير تقديرات المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب EUCTC لعام 2024 بأنّ 60% من المتطرفين الجدد لم يُجنّدوا عبر تنظيمات، بل من خلال «شبكات خطابية رقمية» تُعيد إنتاج مشاعر الظلم والانقسام. والمطلوب من أوربا اليوم تحقيق نقلة من الأمن إلى المناعة الفكرية: تعليم نقدي، وإعلام عقلاني، ودعم للفاعلين المحليين القادرين على تقديم خطاب ديني مدني.

يبقى السؤال: هل تمتلك أوروبا القدرة الفكرية على صياغة سردية جديدة عن نفسها؟ أم أن أزمة الهوية التي تعصف بها ستجعلها عاجزة عن تقديم معنى مقنع لأبنائها المهمّشين؟ فحين تعجز الدولة عن رواية قصتها، يتولّى المتطرفون سردها على هواهم.

معركة على معنى الإسلام في الغرب

من يزرعون بذور الفكر المتطرف في أوروبا لا يعملون في الظل فقط، بل في الضوء أيضًا. فالمشكلة ليست في النصوص التشريعية ولا في المهاجرين، بل في الفراغ الذي يخلّفه غياب مشروع اندماج ذكي ومتوازن. بين الدعوة والجهاد، تتشكل اليوم معركة على معنى الإسلام في الغرب.  معركة لن تُحسم بالسلاح، بل بالفكر، وبقدرة المجتمعات الأوروبية على إنتاج نموذج جديد للعيش المشترك يعيد الثقة إلى الهوية الأوروبية من دون أن يسلخ عنها طابعها العقلاني ونزعتها الإنسانية.