بقلم هشام نذير
بقلم هشام نذير

مقالات مشابهة

تحليل اقتصادي

مكاسب مؤقتة وأضرار شاملة على المدى الطويل.. حين تشعل الحمائية حروبا جمركية عالمية

بقلم هشام نذير
بقلم هشام نذير

يكشف التاريخ ما بين “تعريفة ميلين” الفرنسية (1892) إلى “حروب ترامب” التجارية الحالية، أن الحمائية سلاح ذو حدين يحقق مكاسب تكتيكية مؤقتة، لكنه يؤدي، في الوقت ذاته، إلى خلل بعيد المدى في دورة الاقتصاد الكُلي للدول المتنازعة ومحيطهما. والسؤال هنا: ما الحصيلة الفعلية لهذه المعارك الاقتصادية طويلة الأمد؟

على الرغم من الإجماع بين نظريات الاقتصاد الكلاسيكي على أن التجارة الحرة، عند هيكلتها بشكل صحيح، تُعزِّز النمو المُتبادل، تظل الأدوات الحمائية – كالتعريفات الجمركية والحصص- مكوناً راسخاً في سياسات الدول، حتى تلك التي تتبنى خطاب السوق الحرة. هذه الأدوات ليست مجرد سياسات اقتصادية، بل هي أسلحة جيوسياسية ضمن صراع النفوذ العالمي.

سلاح للمساومة

الحروب التجارية، التي تتجاوز في عواقبها مجرد نزاعات قصيرة المدى، هي في جوهرها استخدام للضغط الاقتصادي لتحقيق أهداف سياسية. الأداة الأكثر شيوعاً هي “الرسوم الجمركية” (Tariffs)، وهي ضريبة تُفرض على السلع المستوردة بهدف معاقبة الشريك التجاري أو حماية الصناعات المحلية.

الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين هو المثال الأحدث على ديناميكية تاريخية طويلة، حيث استُخدمت التعريفات لإعادة رسم خرائط التجارة العالمية والنفوذ.

هل هذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها العالم صراعات جمركية مُؤثرة؟ بالطبع لا، فقد اشتعلت حروب تجارية مماثلة عبر التاريخ، وبنتائج وانعكاسات متباينة على الأسواق. من سياسة القطب الواحد المبكرة التي انتهجتها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، إلى المناورات في حقبة الحرب الباردة، شهد العالم تاريخاً طويلاً من استخدام التعريفات لرسم ملامح التجارة العالمية.

“تعريفة ميلين” (1892) ونموذج الحمائية الأوروبية

بُنيت هذه السياسة الحمائية بقيادة رئيس الوزراء الفرنسي جول ميلين، بهدف حماية الزراعة والصناعة الفرنسية من المنافسة الأجنبية. وأدت التعريفة إلى زيادة كبيرة في الرسوم الجمركية على الحبوب المستوردة بما يضمن ارتفاع الأسعار للمزارعين المحليين، لكنها رفعت في المقابل تكلفة الغذاء على المستهلكين. ورغم أنها عزّزت قدرة الاقتصاد الريفي على المدى القصير، إلا أنها أثقلت كاهل العلاقات التجارية لفرنسا، لا سيما مع الدول المُصدِّرة للحبوب مثل روسيا والولايات المتحدة.

ومع مرور الوقت، ساهمت هذه السياسة في ضعف الكفاءة الاقتصادية، الأمر الذي حدّ من المنافسة والابتكار في السوق الفرنسية. وظلت “التعريفة” سارية لسنوات، لكنها أثبتت في النهاية أنها غير مستدامة مع تحول ديناميكيات التجارة العالمية.

قانون “سموت-هاولي” (1930) والكساد الكبير

كانت أزمة الكساد الكبير في أوجها عندما وقّع الرئيس الـ31 للولايات المتحدة، هربرت هوفر، قانون سموت-هاولي في يونيو 1930. القانون الذي كان يهدف إلى حماية المزارعين الأمريكيين، لكنه رفع التعريفات الجمركية على مجموعة واسعة من السلع، ما أثار إجراءات انتقامية من دول مثل كندا وفرنسا وإسبانيا. والنتيجة، انخفاضٌ حاد في التجارة العالمية.

بحلول عام 1933، انخفضت الصادرات الأمريكية بنسبة 61%، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية أكثر. وعُدَّت هذه السياسة فاشلة على نطاق واسع، وسعى الرئيس فرانكلين روزفلت لاحقاً إلى عكس آثارها من خلال اتفاقيات تجارية ثنائية.

الحرب التجارية الأنغلو-أيرلندية (1932-1938)

تصاعدت التوترات بين بريطانيا وأيرلندا في عام 1932 عندما توقفت حكومة إيمون دي فاليرا عن دفع أقساط الأراضي، وهي مدفوعات مستحقة لبريطانيا بموجب اتفاقيات سابقة.

رداً على ذلك، فرضت بريطانيا تعريفات جمركية باهظة على الصادرات الزراعية الأيرلندية، وخاصةً الماشية، وهو ما وجّه ضربة موجعة للاقتصاد الأيرلندي. لتردّ دبلن بفرض رسوم جمركية على الفحم والسلع المُصنّعة البريطانية، ما أدى إلى ضغوط اقتصادية على كلا الجانبين. واستمر النزاع ست سنوات، أُعيقت خلالها التبادلات التجارية الثنائية، وازدادت الصعوبات خلال فترة الكساد العالمي. ليُكسر الجمود أخيراً في عام 1938، عندما أُعيدت تسوية العلاقات التجارية، لكن الآثار الاقتصادية استمرت لسنوات.

“حرب الدجاج” (عقد 1960)

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والعالم مشغول آنذاك بالتوترات الجيوسياسية، اندلعت “حرب الدجاج”، وهو نزاع تجاري غريب لكن محوري، بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا الغربية.

بدأت الحرب بتدفق الدجاج الأمريكي، رخيص الثمن، بشكل كبير إلى الأسواق الأوروبية. فما كان من المزارعين الأوروبيين، العاجزين عن المنافسة، إلا أن ثاروا على حكوماتهم مُطالبين بالحماية اللازمة.

بالفعل، استجابت حكومات أوروبا، عام 1962، عبر فرض تعريفات جمركية على واردات الدواجن الأمريكية. لترد الولايات المتحدة، في عهد الرئيس ليندون جونسون، بفرض تعريفة 25% على سلع غذائية أوروبية، مثل نشا البطاطس، والديكسترين، والبراندي، وأيضاً على الشاحنات الخفيفة، وخصوصاً منتجات “فولكس فاغن” المصنعة في ألمانيا الغربية.

في النهاية، رُفعت التعريفات على السلع الغذائية، ولكنها ظلت قائمة، بشروط مختلفة، على السيارات. الأمر الذي منح شركات صناعة السيارات الأمريكية ميزة تنافسية على بقية العالم.

كندا وحرب الأخشاب (1982)

يدور خلاف مزمن بين الولايات المتحدة وكندا حول الأخشاب اللينة منذ أكثر من أربعة عقود. مصدره نظام التسعير الذي تُسيطر عليه أوتاوا، والذي تُجادل واشنطن بأنه غير عادل.

أدى هذا الخلاف إلى جولات مُتعددة من الرسوم الجمركية والإجراءات الانتقامية. حتى قبل التهديدات الجمركية الأخيرة لترامب، واجهت الأخشاب الكندية رسوماً بنسبة 14% عند دخولها الولايات المتحدة. ولا يزال هذا النزاع دون حل، مع تصعيد دوري يؤثر على العلاقات التجارية بين الجارتين.

رسوم السيارات بين الولايات المتحدة واليابان (1987)

في عام 1987، فرض الرئيس رونالد ريغان رسوماً جمركية بنسبة 100% على بضائع يابانية بقيمة 300 مليون دولار، مُستهدفاً قطاع السيارات على وجه الخصوص، والغاية كانت مُعاقبة اليابان على عدم امتثالها لاتفاقية تجارة أشباه الموصلات التي تمنح الشركات الأمريكية وصولاً أفضل إلى السوق اليابانية.

في المقابل، امتنعت اليابان عن الرد الفوري، أملاً في احتواء الأزمة ومنع الإضرار المُفرط في العلاقات التجارية الثنائية. ومع ذلك، ارتفع الين، وانخفضت الصادرات اليابانية، ما ساهم في تباطؤ اقتصادي استمر حتى التسعينيات.

حرب الموز (1993-2012)

في عام 1993، فرض الاتحاد الأوروبي رسوماً جمركية على الموز القادم من أمريكا اللاتينية، واستعان بدلاً من ذلك بمُنتجين من مستعمراته السابقة في منطقة البحر الكاريبي وإفريقيا. خطوةٌ أثارت غضب الولايات المتحدة، التي رفعت، دفاعاً عن مصالحها في الشركات التابعة لها جنوباً، القضية إلى منظمة التجارة العالمية مرات عدّة. وفرضت بعد ذلك رسوماً جمركية انتقامية على السلع الأوروبية، بما فيها الفاخرة، مثل الكشمير الإسكتلندي والجبن الفرنسي. وانتهى النزاع أخيراً في عام 2012 بتخفيض تفاوضي للتعريفات على الموز القادم من أمريكا اللاتينية.

حرب الصلب مع أوروبا (2002)

لحماية صناعة الصلب الأمريكية المُتعثرة، فرض الرئيس جورج دبليو بوش رسوماً جمركية تتراوح بين 8% و30% على الصلب المستورد في عام 2002، مستثنياً المكسيك وكندا.

تحمّلت الدول الأوروبية وطأة هذه السياسة. ورداً على ذلك، هدد الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية على سلع أمريكية بقيمة 2.2 مليار دولار، بما في ذلك البرتقال والدراجات النارية. لكن، بعد عام واحد وخوفاً من التداعيات الاقتصادية، ألغى بوش الرسوم، مُتجنباً حرباً تجارية شاملة.

حرب ترامب التجارية الأولى (2018)

شهدت الولاية الأولى لدونالد ترامب تصعيداً كبيراً في النزاعات الجمركية العالمية. ففي أوائل عام 2018، فرضت إدارته تعريفات جمركية على كل شيء تقريباً، من الفولاذ والألمنيوم إلى الألواح الشمسية والغسالات. وبعد ذلك بوقت قصير، استهدفت واشنطن الواردات الصينية على وجه الخصوص، ما أدى إلى سلسلة من الردود الانتقامية.

قُوبلت هذه الإجراءات بفرض الصين تعريفات جمركية مضادة على سلع أمريكية مثل السيارات والطائرات، وعلى منتجات زراعية مثل فول الصويا، ما أثر على المزارعين والمحصول في الغرب الأوسط الأمريكي. لتساهم هذه الحرب التجارية في زعزعة استقرار السوق وزيادة التكاليف على المستهلكين. وبحلول 2019، طالت الرسوم الجمركية الأمريكية نحو 360 مليار دولار من الواردات الصينية.

حرب ترامب التجارية الثانية (2025)

استأنف الرئيس الأمريكي حربه التجارية مع الصين بوتيرة أكثر حدّة ووضوحاً، في ولايته الثانية، لكن ضمن سياق عالمي مختلف تماماً عن عام 2018.

في فبراير 2025، فرض نزيل البيت الأبيض تعريفات جمركية بنسبة 25% على الواردات من كندا والمكسيك، مُبرراً ذلك بمخاوف تهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية والعجز التجاري. وفي 2 أبريل، وسّع قائمة الدول المُتضررة لتشمل العديد من الدول الأخرى، بما في ذلك بنغلاديش والهند والصين وفيتنام والاتحاد الأوروبي.

توسعت دائرة القيود بعد ذلك لتشمل الرقائق المتقدمة وأدوات الذكاء الاصطناعي المُصدَّرة إلى الصين. في المقابل، رفعت بكين حواجز التصدير لتشمل المعادن النادرة المُستخدمة في صناعة الشرائح والبطاريات والمركبات الكهربائية. وآخر جولات تلك الحرب كانت رسوم حاويات الشحن التي فرضها أكبر اقتصادين في العالم على السفن التي ترسو في موانئهما، ما زاد من توتر الأسواق العالمية.

استراحة في مسار العولمة أم بداية نهايتها؟

يكشف التاريخ، من “ميلين” إلى “ترامب”، أن الحمائية ليست مُجرد أداة اقتصادية، بل هي انعكاس لتوازن القوى العالمي. ورغم أن كل دولة تسعى لتحقيق مكاسب تكتيكية، فإن النتيجة غالباً ما تكون زعزعة استقرار النظام الذي يعتمد عليه الجميع. السؤال المطروح الآن ليس ما إذا كانت الحمائية ستستمر، بل معرفة ما إذا كان النظام العالمي نفسه قادراً على الصمود أمام تحولها من استثناء مُؤقت إلى قاعدة دائمة في العلاقات الدولية.