من سفوح ريف إدلب، حيث تختلط ذكريات الحرب بآثارها اليومية، يتجدد النقاش حول أحد أعقد ملفات الصراع السوري: المقاتلون الأجانب الذين استوطنوا شمال البلاد منذ أكثر من عقد، وتحولوا تدريجياً إلى جزر بشرية مُغلقة ترفض الانصهار في أي مشروع وطني جديد.
حادثة اختطاف طفلة فرنسية في بلدة حارم السورية، في ريف إدلب، منتصف أكتوبر الماضي، التي أشعلت مواجهة مسلّحة بين السلطات السورية الجديدة و”فرقة الغرباء” التي تضم جهاديين أجانب ناطقين باللغة الفرنسية، لم تكن مجرد واقعة جنائية، بل فتحت نافذة على التحول الأعمق: انهيار سردية «الاستقلال الجهادي» التي تغذت على وهم العبور الدائم للحدود. بهذا المعنى، بدا الاشتباك الأخير بين الأجهزة الأمنية و«فرقة الغرباء» إعلاناً رمزياً لنهاية مرحلة طويلة من الوهم.
من نيس إلى إدلب
وُلد عمر ديابي، المعروف باسم عمر أومسين، في مدينة نيس الفرنسية لأبوين من أصول سنغالية. برز في العقد الثاني من عمره داعية رقمياً في فضاءات الشبكات الاجتماعية، يخاطب أبناء المهاجرين بلغة المظلومية والهوية. ومع اندلاع الحرب السورية عام 2011، استثمر أومسين الفوضى الرقمية وحالة الفراغ الديني والسياسي لدى شريحة من الشباب الأوروبي، فحوّل خطابه إلى قنوات تجنيد مُتصلة عابرة للحدود.
في عام 2013، غادر فرنسا متجهاً إلى الشمال السوري، حيث أسس ما صار يعرف بـ«فرقة الغرباء»، وهي مجموعة ناطقة بالفرنسية تعمل باستقلال نسبي عن التنظيمات العربية أو التركية. خلال سنوات، تحوّل المجمّع الذي أنشأه قرب حارم إلى كيان مغلق يعرف محلياً بـ«مخيم الفرنسيين»، يضم مقاتلين من فرنسا وبلجيكا مع عائلاتهم، ويُدار بقواعد داخلية صارمة ومحاكم شرعية خاصة.
كيان داخل الجبال
لم تكن «فرقة الغرباء» من كبريات الفصائل عتاداً وعدداً، لكنها مثلت مُعضلة سياسية وأمنية. لم تُبايع تنظيم الدولة الإسلامية رسمياً، ولم تذُب في «هيئة تحرير الشام» المسيطرة على إدلب، بل احتفظت بمنطقة نفوذ محدودة تقودها قواعدها الخاصة. داخل هذا الكيان، فُرضت نُظم سلوكية صارمة، ومُنع التعليم خارج المخيم، وفرضت ضرائب تحت عنوان «دعم الجهاد»، مع تراكم شكاوى مدنية من خطف وابتزاز وتضييق على النساء.
في عام 2017 اعتقلت «هيئة تحرير الشام» أومسين وفرضت عليه حكماً بالسجن لسبعة عشر شهراً، لكنه خرج أكثر تشدداً وأعاد تنظيم شبكته تحت تسمية «الفرنسيون المستقلون»، مستفيداً من الارتباك الأمني ومراحل التحول التي أعقبت تقهقر أطراف عدة في المشهد.
الشرارة الأخيرة
في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2025، تقدمت سيدة فرنسية مقيمة في إدلب ببلاغ يفيد باختطاف ابنتها البالغة إحدى عشرة سنة. توجهت الاتهامات إلى عناصر من «فرقة الغرباء» الذين يُشتبه في نقلهم الطفلة إلى داخل المخيم. أرسلت الأجهزة الأمنية إنذاراً رسمياً لعمر ديابي لتسليم الفتاة والمطلوبين، لكنه رفض الامتثال واعتبر القضية شأناً داخلياً للجالية الفرنسية في المخيم. عندها فُرض طوق أمني على محيط حارم، وتم توظيف استطلاع جوي بطائرات مسيرة لمراقبة التحركات، ووقعت اشتباكات محدودة بالأسلحة الخفيفة ثم توقفت العمليات بانتظار التفاوض.
ردّ أومسين بتسجيل صوتي اتهم فيه السلطات بـ«العمالة لباريس»، ملمحاً إلى تفاهمات أمنية بين دمشق وعواصم أوروبية بخصوص ملف الجهاديين. في هذه اللحظة، تجاوز الحدث طبيعته الجنائية ليغدو اختباراً سياسياً لمنطق الدولة في مواجهة منطق الجماعة.
البعد الأوروبي.. وتحدي «الأشباح العائدين»
أعادت أجهزة الاستخبارات الأوروبية منذ سنوات فتح ملف المقاتلين الأجانب، خاصة بعد سلسلة هجمات في باريس وبروكسل بين 2015 و2017. تطورت المقاربة الفرنسية لاحقاً نحو استعادة الخاضعين للرقابة ومحاكمتهم داخلياً بدلاً من تركهم في بؤر التوتر، فيما نسقت بروكسل مع باريس عبر خلايا مشتركة لتحديد مواقع المتورطين في شمال سوريا.
ظلت المعضلة كامنة في الكيانات المُنغلقة مثل «فرقة الغرباء»، الرافضة لأي تواصل قنصلي أو إنساني منظم. لذلك، ينظر الأوروبيون إلى ما جرى في حارم باعتباره اختباراً لقدرة دمشق على تفكيك الوجود الأجنبي المسلح ضمن قواعد سيادة القانون، بما يفتح الباب لتنسيق أمني انتقائي يحفظ لكل طرف أولوياته. بهذا المعنى، قد تكون قصة الطفلة بداية مسار عملي لتصفية جيوب المقاتلين الأوروبيين في الشمال السوري، بعد سنوات من المراوحة.
البُعد الرمزي: سقوط سردية الاستقلال الجهادي
تختلف الأدبيات الجهادية الناطقة بالفرنسية عن نظيراتها العربية في تبنيها مفهوماً خاصاً بالاستقلال عن الجماعات التقليدية وإقامة نموذج «نقيّ» للمهاجرين. هذا التعريف، الذي روّج له أومسين منذ 2014 عبر قنوات مغلقة ومنصات عامة، صوّر الجهاد بوصفه انعتاقاً من السلطة السياسية والدينية الغربية وبناء مجتمع طاهر خلف حدود مغلقة. لكن الاصطدام بالواقع الاجتماعي في الشمال السوري بدّل المعادلة، فقد تحوّل الخطاب الأممي إلى نظام معيشي مُنغلق: تعليم مقيد، ضرائب قسرية، محاكمات داخليّة، وعزلة عن المجتمع المحلي.
هنا تتجلى نهاية الوهم: حين يتحول التحرر المزعوم إلى عُزلة خانقة، وتتحول الجماعة إلى كيان بيروقراطي صغير يعيد إنتاج ما كانت تحتج عليه نظرياً.
أبعاد سياسية تتجاوز الحادثة
تأتي هذه المواجهة في لحظة انتقالية للدولة السورية. بعد أكثر من عقد من الحرب، تعمل دمشق على تثبيت سيادتها على الأرض وبناء نموذج أمني قابل للاستمرار. وجود تشكيلات أجنبية مسلحة، مهما كان حجمها، بات عبئاً على هذا المسار، خصوصاً في ظل إشارات انفتاح أوروبية تدريجية وملفات تعاون أمني انتقائي. تسوية ملف «فرقة الغرباء» تبدو شرطاً وظيفياً لتبريد العلاقات وإعادة فتح قنوات الحوار غير العلني، إذ إن أي مسارات تطبيع أو تعاون لن تترسخ دون معالجة معضلة المقاتلين الأجانب قانونياً وأمنياً وإنسانياً.
السيناريوهات المحتملة
تقف السلطات السورية أمام ثلاثة خيارات رئيسية، لكلٍّ منها كلفته ومخاطره.
– أولًا: الاحتواء الإنساني التدريجي عبر إجلاء النساء والأطفال وتأمين ممرات آمنة وتفكيك البنية الاجتماعية للمخيم بتسليم القيادات.
– ثانيًا: الاقتحام المحسوب إذا فشلت المفاوضات، وذلك بعملية نوعية محدودة تستهدف مراكز القيادة دون توسع ميداني يهدد المدنيين.
– ثالثًا: التدويل السياسي وهو الأكثر تعقيداً، إذ قد تطالب باريس أو بروكسل بدور مباشر بحجة حماية الرعايا أو ضمان محاكمات عادلة، ما يفتح الباب لتجاذب دبلوماسي جديد بين دمشق والعواصم الأوروبية.
المُفاضلة بين هذه السيناريوهات ستُبنى على تقدير المخاطر الآني وقدرة الدولة على فرض القانون دون خسائر اجتماعية وسياسية جسيمة.
المقاتلون الأجانب: عبء ما بعد الحرب
لا تقتصر ظاهرة المقاتلين الأجانب على الفرنسيين والبلجيكيين. فالشمال السوري ما يزال يؤوي تشكيلات من أصول أوزبكية وشيشانية وتركستانية تقيم في معازل جبلية وتخضع لسلطات أمراء محليين. خلال الأشهر الأخيرة سُجّلت اعتقالات طالت قيادات أجنبية بارزة، في مؤشرات على مسعى متضافر لتفكيك بقايا البنى العابرة للحدود.
هذه الجماعات منحسرة النفوذ قد تلجأ إلى افتعال فوضى مسيطَر عليها بحثاً عن شرعية ميدانية مفقودة، وهو نمط تكرر على مسارح نزاع أخرى. لكن الفرق هنا أن بنية الصراع في سوريا تتجه ببطء نحو مركزية أمنية أعلى، ما يقلل مساحات الحركة للجماعات الصغيرة وإن لم يلغها تماماً.
اختبار الدولة الجديدة
في جوهر الصراع مع «فرقة الغرباء» تكمن معركة رمزية على تعريف السيادة والشرعية في سوريا ما بعد الحرب. الدولة التي عانت سنوات من تداخل السلطات وتنازع الجغرافيا تقف اليوم أمام امتحان مزدوج: فرض القانون من جهة، وتجنب الانزلاق إلى عنف جديد من جهة أخرى.
حادثة الطفلة الفرنسية لم تكن سوى الشرارة التي كشفت الفجوة بين منطق الدولة ومنطق الجماعة؛ بين مشروع إعادة لَمّ الجغرافيا والبشر في إطار وطني ومشروع الانكفاء داخل حدود ضيقة.
بقدر ما تبدو «فرقة الغرباء» حالة هامشية، فإنّ دلالاتها أكبر من حجمها: إنها مؤشر على مدى استعداد الدولة لإغلاق ملفات الأمس دون فتح جراح جديدة، وعلى استعداد أوروبا للتعامل مع دمشق كطرف أمني لا غنى عنه في معالجة إرث مواطنيها الذين خاضوا مغامرة العبور إلى الجهاد.
تُلخص قصة «فرقة الغرباء» مساراً بدأ في فضاءات الإنترنت في ضواحي نيس، وانتهى بكيان متعب على تخوم إدلب. ليست المسألة حكاية مجموعة مسلحة فحسب، بل نهاية سردية كاملة راهنت على عبور دائم للحدود وعلى إمكان بناء مجتمع موازٍ خارج منطق الدولة. ما تكشفه حارم اليوم هو انتقال بطيء من زمن الجماعة إلى زمن الدولة.
يبقى السؤال مفتوحاً: هل تستطيع دمشق إنهاء «الاستقلال الجهادي» من دون الوقوع في فخ صراع استنزافي جديد؟ إن الإجابة ستحدد ملامح العلاقة المقبلة بين سوريا وأوروبا، حيث تُقاس السيادة لا بالخرائط فقط، بل بقدرة الدولة على تفكيك الجيوب المُغلقة وإعادة دمج الأرض والناس في مشروع وطني واحد.




