تحت عنوان “استعادة الأمن”، أطلقت “حماس” سلسلة مداهمات واعتقالات واسعة في غزة وخان يونس ورفح، شملت تنفيذ إعدامات ميدانية علنية بحق أشخاص اتُّهموا بالتعاون مع إسرائيل أو بالمشاركة في أعمال تمرد مسلح.
تعيش غزة منذ مطلع أكتوبر 2025 على وقع توتر غير مسبوق بين حركة حماس وعدد من العشائر والعائلات المسلحة التي تُشكّل أحد المكوّنات الاجتماعية المؤثرة في القطاع، لكنها اليوم تتحوّل إلى مصدر قلق أمني وتهديد محتمل لسيطرة الحركة التي تحكم غزة منذ عام 2007.
بعد الهدنة الأخيرة مع إسرائيل، اندلعت مواجهات دامية في أكثر من منطقة داخل القطاع، كشفت عُمق الشرخ بين السلطة العسكرية لحماس والسلطة الاجتماعية للعشائر، وأعادت إلى السطح أسئلة عن شرعية الحكم، والتوازن بين الأمن والقبيلة في مجتمع أنهكته الحروب والانقسامات.
من توحيد الصف إلى تفكيكه
مع إعلان وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، كان يُفترض أن تدخل غزة مرحلة “استقرار نسبي” وإعادة إعمار. لكن الهدنة كشفت سريعاً هشاشة البنية الأمنية والاجتماعية داخل القطاع.
خلال الحرب، انضوت معظم القوى المحلية — بما فيها العشائر — تحت راية “المقاومة” ضد الاحتلال، ما وفّر لحماس غطاءً وطنياً وشعبياً واسعاً. لكن بعد الحرب، ومع غياب عدوّ خارجي مباشر، عادت التناقضات الداخلية إلى الواجهة: تفجّرت الخلافات حول توزيع المساعدات والنفوذ المحلي. وشعر كثير من أبناء العشائر بأنهم استُبعدوا من عملية القرار بعدما قدّموا تضحيات بشرية ومادية جسيمة خلال القتال. استخدمت حماس الهدنة لإعادة بسط سلطتها عبر حملات أمنية صارمة، وهو ما فُهم من قِبل العشائر كإقصاءٍ مقصود وتصفية حسابات.
بعبارة أخرى، الهدنة لم تُنتج استقراراً، بل كشفت التصدّعات الكامنة التي كانت مُؤجلة بفعل الحرب. فحين خفّ الضغط العسكري الإسرائيلي، انقلبت أدوات القوة نفسها إلى الداخل — من سلاح المقاومة إلى سلاح السيطرة.
من هم الخصوم؟
تتمحور أبرز المواجهات حول ثلاث عشائر رئيسة:
- عشيرة دغمش: تُعدّ من كُبرى وأقوى العشائر في قطاع غزة، وتعرف منذ فترة كبيرة بأنها مُسلحة بشكل جيد. ويعتبر زعماء العشيرة السلاح ضرورة تقليدية للدفاع عن أرضهم. ولأفراد العشيرة انتماءات لجماعات فلسطينية مُسلحة مختلفة، بما فيها “فتح” و”حماس”. وكان أبرز قادة العائلة هو ممتاز دغمش، الذي أدرجته الولايات المتحدة على قائمة المطلوبين بسبب علاقاته مع تنظيم القاعدة. وذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أن ممتاز قُتل بعد اتهامه بالتعاون مع إسرائيل، غير أنه لا يوجد أي دليل على أنه شارك في الاشتباكات الأخيرة، إذ لم يُشاهد في العلن أو يُسمع عنه منذ بضع سنوات، حسب “رويترز”. وهو ما دفع العائلة للإعلان أن عناصر حماس باتوا هدفاً مباشراً لها. وقاد ممتاز، الجناح المسلح لـ”لجان المقاومة الشعبية” بمدينة غزة في السّابق. وشكّل لاحقاً “جيش الإسلام” الذي بايع تنظيم “داعش”.
- عشيرة المجايدة: تُقيم في منطقة خان يونس، وتُعدّ من العشائر البارزة في القطاع. تتميز بتماسكها الاجتماعي واهتمامها بقضايا المجتمع المحلي.
- عشيرة أبو شباب: تتواجد في منطقة رفح، وتُعدّ من أبرز القوى المحلية المناهضة لحركة حماس. يقودها ياسر أبو شباب الذي استطاع استقطاب مئات المقاتلين عبر عرض رواتب مُغرية. تتهمه الحركة بالتعاون مع إسرائيل، وهو ما ينفيه أبو شباب.
الشرارة الأولى
في 3 أكتوبر، داهمت قوات الأمن الداخلي التابعة لحماس حيّ المجايدة في خان يونس، في عملية وُصفت بأنها “تطهير أمني” ضد عناصر متهمة بالتعاون مع إسرائيل. وتحوّل الاشتباك إلى معركة حقيقية استخدمت فيها الأسلحة المتوسطة، وسقط خلالها قتلى من الجانبين.
وبعد أسبوع واحد فقط، شهدت مدينة غزة أعنف المواجهات منذ انتهاء الحرب، حين دارت اشتباكات بين قوات حماس وأفراد من عشيرة دغمش في حي الصبرة وتل الهوا، أسفرت عن مقتل نحو 27 شخصاً بينهم عناصر من كتائب القسام ومدنيون. اتهمت حماس العشيرة بالتعاون مع الاحتلال بمحاولة إقامة “منطقة خارجة عن القانون”، بينما نفت العشيرة التهم واعتبرت ما جرى “عملية انتقامية” بعد مقتل أحد قادة الأجهزة الأمنية في نزاع سابق.
حملة “فرض النظام”
تحت عنوان “استعادة الأمن”، أطلقت حماس بعد الهدنة سلسلة مداهمات واعتقالات واسعة في غزة وخان يونس ورفح. وشملت الحملة تنفيذ إعدامات علنية بحق أشخاص اتُّهموا بالتعاون مع إسرائيل أو بالمشاركة في أعمال تمرد مسلح.
ووفق تقارير حقوقية وإعلامية، تولّت وحدات أمنية خاصة مثل “الوحدة السهمية” عمليات تنفيذ الأحكام، وسط تنديد منظمات دولية حذّرت من “العدالة الميدانية”. في المقابل، ترى قيادة الحركة أن هذه الإجراءات ضرورية لمنع الانفلات٬ وضمان عدم عودة الفوضى الأمنية التي شهدها القطاع خلال الحرب الأخيرة.
إقتصاد الحرب وتهريب المساعدات
وراء العناوين السياسية، تكمن شبكة مصالح اقتصادية مُعقدة تُغذّي هذا الصراع. فالعشائر التي تسيطر على بعض المعابر والمخازن والأنفاق القديمة تُتَّهم بإدارة تجارة المساعدات وتهريب البضائع مقابل نُفوذ محلي. فيما تعتبر حماس هذه الأنشطة إضعافاً لسلطتها وتدعيماً لمركز قوة العشائر الموازية.
من جهة أخرى، يرى بعض وجهاء غزة أن الحركة نفسها تتحمّل جزءاً من المسؤولية، لأنها سمحت سابقاً بتنامي نُفوذ العشائر حين اعتمدت عليهم في ضبط الأمن الداخلي أو إدارة مناطق نائية خلال فترات الحصار والحرب.
اتهامات متبادلة بالتعاون مع إسرائيل
من أخطر ما يُحرّك الأزمة التراشق باتهامات التعاون مع الاحتلال. تستخدم “حماس” هذه التهمة لتبرير حملاتها الأمنية، مؤكدة أن بعض العشائر كانت مخترقة من قبل إسرائيل٬ أو تلقت تمويلاً منها، خصوصاً في المناطق الحدودية جنوب القطاع. لتنفي العشائر ذلك٬ معتبرة أن الحركة توظّف هذه التهمة لتصفية خصومها المحليين واحتكار القرار الأمني والسياسي.
إسرائيل من جهتها تلتزم الصمت، فيما تحدّثت بعض التقارير الغربية عن محاولات إسرائيلية لـ”تسليح مجموعات عشائرية” بهدف إضعاف “حماس”، وهو ما يزيد من الغموض والتوتر.
خطر التفكك الداخلي
تُثير المواجهات الأخيرة مخاوف من انزلاق القطاع نحو صراع داخلي مفتوح، في حال فشلت “حماس” في استيعاب الغضب العشائري أو استمرت في نهج القمع الميداني.
ويُحذّر باحثون فلسطينيون من أن تفكّك السلطة الأمنية الموحدة سيخلق “مناطق نفوذ” داخل القطاع، خصوصاً في الجنوب، حيث تمتلك العشائر قاعدة اجتماعية واسعة وسلاحاً متنوعاً.
كما يربط محللون بين تدهور الوضع الاقتصادي وفقدان الثقة الشعبية في مؤسسات الحركة، وبين ازدياد الميل لدى بعض العائلات إلى الاعتماد على “قوانينها الخاصة” بدل الاحتكام إلى سلطة الدولة.
رسائل ما بعد الحرب
تبدو “حماس” مُصمّمة على توجيه رسالة مُزدوجة: إلى الداخل بأنها ما تزال السلطة الوحيدة القادرة على ضبط الأمن، وإلى الخارج بأنها قادرة على السيطرة على الفوضى. لكن الطريقة التي تُدار بها الأزمة، القائمة على القوّة المفرطة وغياب الحوار مع القوى الاجتماعية، قد ترتدّ على الحركة مستقبلاً. فالعشائر ليست مجرد مجموعات مسلحة؛ بل نسيجاً قبلياً يمتدّ في العائلات الفلسطينية الكبرى، ما يجعل التعامل الأمني معها محفوفاً بالمخاطر.
أصل وتاريخ العشائر في غزة
تعود جذور العشائر الفلسطينية في غزة إلى العصور الإسلامية السابقة للاستعمار الغربي، حيث نشأت في بيئة تعتمد على الروابط العائلية والقبلية. خلال فترات الحكم العثماني، كانت العشائر تُعتبر وحدة اجتماعية مهمة، حيث كانت تُشكل أساساً للحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المنطقة. في العصور الحديثة، لعبت العشائر دوراً بارزاً في مقاومة الاحتلالات المختلفة، بما في ذلك الاحتلال البريطاني والإسرائيلي.
في هذا الإطار، يوجد العديد من العشائر الفلسطينية التي تتوزع في قطاع غزة على مناطق مختلفة، وتتميز كل عشيرة بخصوصياتها الثقافية والاجتماعية. من أبرزها “عشيرة الجبارات” التي تسكن في الشمال الشرقي من غزة٬ و”عشيرة الحناجرة” في الجنوب الشرقي من القطاع.
دور العشائر في الحياة السياسية والاجتماعية
تُعد عشائر غزة من الركائز الأساسية في الحفاظ على السلم المجتمعي، حيث تلعب دوراً مهماً في فض النزاعات وحل القضايا العائلية والاجتماعية. وتُجسد الهيئة العليا لشؤون العشائر نموذجاً لهذا الدور، حيث تعمل على تعزيز الوحدة الوطنية وتضميد الجراح وتجاوز الخلافات بروح التسامح والحكمة. كما تُظهر العشائر التزاماً بالقيم الوطنية، حيث أصدرت مؤخراً بياناً يدعو إلى الوحدة ونبذ الفرقة، وأن تبقى رافعة للوحدة لا مصدراً للفرقة.
تختزل المواجهات بين حماس والعشائر في غزة جوهر المعضلة التي يواجهها القطاع. كيف يمكن لحركةٍ مقاومةٍ أن تتحوّل إلى سلطة حاكمة تُوازن بين الأمن والمجتمع، بين العقيدة والسلاح، وبين الدولة والقبيلة؟ ومع استمرار الفقر والحصار وغياب الأفق السياسي، تبدو غزة مُهيّأة لمزيد من التصدّعات الداخلية، ما لم تُفتح قنوات حوار تعيد بناء الثقة بين سلطة الأمر الواقع والشارع القبلي الذي كان يوماً حاضناً لها.






