إسرائيل - فلسطين

غزة: الخبز مقابل الدم

جان-بول ماري
جان-بول ماري

يكشف الواقع عنصريةً ممنهجةً تتغلغل في سياسات إسرائيل وسلوكها، حيث تُعامل بعض الأرواح كأنها أغلى من غيرها، ويُمنح البعض حق الحياة والحماية، بينما يُحرم آخرون من أبسط حقوقهم.

!في الـ 19 من يونيو 2025، استهدف صاروخ إيراني مستشفى سوروكا الطبي في بئر السبع بشكل مباشر، أدى إلى إصابة 71 شخصاً. ليرد وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس على الفور، واصفاً الهجوم بأنه “من أخطر جرائم الحرب”. وهذا توصيف يراه البعض مبرراً تماماً ويتناسب مع فظاعة الموقف. بل إن كاتس ذهب إلى أبعد من ذلك، مستخدماً هذا التصريح كأساس لتبرير احتمال اغتيال المرشد الأعلى في إيران، حين قال: “علي خامنئي يُعلن صراحةً رغبته في تدمير إسرائيل، وهو من يُصدر الأوامر شخصياً بقصف المستشفيات. لم يعد مقبولاً السماح بوجود رجل كهذا”.

 في المقابل، سجّلت منظمة الصحة العالمية 697 هجوماً إسرائيلياً على المرافق الصحية في غزة منذ بدء الحرب في أكتوبر عام 2023، منها 28 مستشفى رئيسياً قُصفت وخرجت عن الخدمة.

 فأين يكمن الفرق بين الحالتين؟ بالنسبة لإسرائيل، الأمر واضح لا لُبس فيه: في غزة، يقصفون وكراً للإرهابيين؛ أما في بئر السبع، تقتل الصواريخ الإيرانية المدنيين. في غزة، لا يُسمح للصحفيين الأجانب بالدخول، بينما يُستهدف الصحفيون الفلسطينيون ويُقتلون؛ أما في الدولة العبرية، فالمراسلون الأجانب لهم مطلق الحرية في أداء عملهم.

 ووثّقت إحدى المحطات التلفزيونية مراسلاً يصف وابلاً من الصواريخ الإيرانية في السماء، قال حينها: “انظروا إنها 5، 6، 7، 8 صواريخ مرّت فوقنا للتو!”، تبع ذلك صيحة ذعر لعاملة إفريقية “يا إلهي!”، ومن ثم لحق بها المراسل إلى الملجأ وسط أجواء مليئة بالخوف والقلق والخطر الحقيقي؛ أما في غزة، فلا تقاريرَ مفصلة أو تغطيات واضحة للحدث. مجرد بضع صورٍ ضبابية، ومقتطفات من مقابلات هاتفية، وإحصائياتٍ وأرقام مجهولة.

 في مواجهة الكارثة الإنسانية التي يعيشها أكثر من مليوني إنسان جائع في غزة، قررت إسرائيل في 27 مايو الفائت، وبدعم أمريكي، أن تتحكم بتوزيع المساعدات الغذائية في القطاع، من خلال إنشاء ما سمّته “مؤسسة غزة الإنسانية”، شريطة ألا تستفيد “حماس” منها بالطبع. لكن في كل مرة يتحرك فيها الجوعى للحصول على المساعدات، كانت القوات الإسرائيلية تُطلق طلقات تحذيرية، وقاتلة في آن واحد.

 وفي 16 يونيو، قتلت تلك القوات 40 شخصاً في رفح. وفي خان يونس، في اليوم التالي، قتلت 51 آخرين، مع أكثر من 200 جريح. والنتيجة، 300 قتيل ونحو 3000 جريح، وفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي وصفت المؤسسة بالـ “خطيرة وغير الفعّالة”. يمكن القول إن أهل غزة يريدون الخبز من أجل الحياة، لكنهم يُواجهون بالقتل.

 في غضون ذلك، تعمل شبكة الملاجئ العامة في إسرائيل بكفاءة وفعالية، لكن ليس للجميع ولا بنفس الكيفية. فالمدن العربية داخل إسرائيل تفتقر للبنية التحتية اللازمة لحماية المدنيين، ونادراً ما تتواجد الملاجئ. وفي المجتمعات المختلطة، لا يُسمح للجميع بالدخول إليها. ففي يافا، على أطراف تل أبيب، أفاد السكان العرب بأن جيرانهم اليهود أغلقوا أبواب الملاجئ في وجوههم، وقالوا لهم: “إنها ليست لكم!”.

 في حيفا، كان محمد دبدوب، 33 عاماً، يعمل في ورشته لإصلاح الهواتف عندما دوت صفارات الإنذار. ركض حينها باتجاه الملجأ أسفل المبنى، وأدخل الرمز، دون جدوى. طرق الباب، ونادى بالعبرية على جيرانه في الداخل، لكن أحداً لم يفتح له. وبعد لحظات، انفجر صاروخ بالقرب من المكان، وحطم نوافذ الشارع. يقول محمد: “ظننت أنني سأموت”. لم تكن تلك الحادثة الوحيدة، ففي عموم إسرائيل كانت العبارة واحدة تقريباً: “الملاجئ ليست لكم”.

 في إسرائيل، يُنظر إلى البعض وكأنهم بشر تعرضوا للخطر. أما البعض الآخر، سواءً وُصفوا بـ”الإرهابيين” أو بمواطنين إسرائيليين، فيُهمّشون لأنهم ببساطة عرب. إنها عنصرية الدولة، عنصرية المجتمع، وعنصرية المنهج، حيث أصبح خطاب الكراهية السام والمتطرف لليهود جزءاً من السياسات والممارسات الإسرائيلية، وطابعاً رسمياً لتل أبيب.