أصدرت عالمة الاجتماع الفرنسية ناتالي هاينيش مؤخراً كتاباً بعنوان «التفكير ضد مُعسكرك. مسار سياسي لمثقفة يسارية» (منشورات غاليمار). في هذا الحوار، تكشف لنا عن رحلة فكرية طويلة بين الانتماء والمعارضة، بين الولاء لمبادئ اليسار الكوني الأصيلة، والقطيعة مع يسار معاصر تعتبره قد انحرف نحو الهوياتية والانغلاق. ومن خلال خطابها، تعلن عن تمسّكها بما تراه جوهر الإرث الفرنسي: العلمانية، الكونية، المساواة، العقلانية، وحرية الضمير.
– أنتِ لستِ صحافية، ولا عالمة سياسة، ولا مؤرخة، بل مثقفة منخرطة في الشأن العام، وفي الوقت ذاته باحثة في علم الاجتماع، بعيدة عن ثنائية “مع أو ضد” التي يعشقها الإيديولوجيون. فما هي برأيك المساحة المتبقية للتفكير الحرّ في عالم اليوم، وقد صار الإعلام مُختزِلًا ومُسطّحًا؟
– ناتالي هاينيش: ينبغي التمييز بين تدخلاتي السياسية في الصحافة، من جهة، وبين عملي البحثي الذي أنشره في السلاسل الأكاديمية والمجلات العلمية من جهة أخرى. كتابي «كيف تفكّر ضد مُعسكرك» يندرج بوضوح ضمن الفئة الأولى، إذ أتناول فيه مواقفي إزاء قضايا مختلفة، في محاوِلة للكشف عن القيم التي تقف وراءها، وهي قيم تعود في جوهرها إلى المبادئ المؤسِّسة الكبرى لليسار: حماية المستضعفين، الكونية، العلمانية، المساواة (أو بالأحرى الإنصاف)، الجدارة…
في ذلك، أستعين بأدوات التفكير وبالقدرة على التأمل التي راكمتها من خلال مهنتي، لكنني أطبقها هنا على قضايا مرتبطة بانخراط المثقف في السياسة. هدفي هو تفادي الوقوع في فخ الرأي السهل وغير المتأمل (“أنا أعتقد أن…”) لصالح موقف مدروس وعقلاني يوازن بين الإيجابيات والسلبيات، ويأخذ في الاعتبار التعقيد والازدواجية، ويبتعد ما أمكن عن ثنائية “مع أو ضد” الخالية من أي تدرج أو برهان. بكلمة أخرى: أنا أقف على النقيض التام مما هو سائد اليوم من “ثرثرة اجتماعية”.
– ماذا تعنين بقولكِ “لم أكتشف النضال إلا عند سن التقاعد، من خلال معركة الدفاع عن العلمانية والتصدي لتيار الـ Woke (تيار “اليقظة” الأمريكي يساري التوجّه)”؟
– في الحقيقة، البحث العلمي يتطلب وقتاً وتركيزاً، وهو ما لا ينسجم مع الالتزام النضالي. لقد قضيت نحو أربعين عاماً متفرغة بالكامل تقريباً للبحث. ثم جاءت الأحداث المتسارعة لتغيّر المعادلة. فمشاركتي في التجمعات النضالية بدأت في أواخر العقد الثاني من الألفية، حين أدركت ثِقَل الإسلاموية وما تمثله من تهديد لتحرر النساء وللعلمانية معاً. وبعدها مباشرة برز ما أُطلق عليه اسم “Woke” – وهو مصطلح يعني حرفياً “مُستيقظ”، يُستخدم في الإنجليزية للإشارة إلى الوعي بالظلم الاجتماعي والعنصرية، بينما تحوّل في فرنسا إلى wokisme ليصف تياراً هوياتياً يُبالغ في الحساسية تجاه قضايا العِرق والجندر والهويات، ويؤدي أحياناً إلى ما يسمى “ثقافة الإلغاء” Cancel culture.
في كتابي «هل “الووك” تيار شمولي؟» (منشورات ألبان ميشيل، مايو 2023)، سعيت إلى توصيف هذه الظاهرة بوصفها تقاطعاً بين النزعة الجماعاتية أو الهوياتية (التي تُعرِّف الأفراد وتتعامل معهم بشكل منهجي انطلاقاً من “مجتمع انتماء” – سواء كان الجندر، أو لون البشرة، أو التوجه الجنسي، إلخ)، وبين هوس السيطرة والهيمنة الذي يُحوّل كل شخص إلى مُمثِّل لـ “مجتمع مهيمن” أو “مجتمع مهيمن عليه”. ومن هنا يتضح الطابع المتعدد الأشكال للووك، الذي نجده في النسوية الجديدة، والكتابة الشاملة، وحركات ما بعد الاستعمار، والنزعة التقاطعية (intersectionality)، ونظريات الجندر والتحول الجنسي، والنضال ضد ما يسمى “الإسلاموفوبيا” أو “فوبيا البدانة”، وغيرها.
هذا التنوع يمنح مروجي هذا التيار سلاحاً قوياً: فهم يعتقدون أنهم يعملون باسم “القضية التقدمية”، إلى حد يبيح لهم إسكات من يخالفهم، عبر ما يُعرف بـ”ثقافة الإلغاء”. بل إن بعضهم يذهب إلى إنكار وجود الووك أصلًا…
– ما هي الموضوعات التي صار التفكير حولها محظوراً؟ وما أثر ذلك على القيم الديمقراطية على المدى الطويل؟
– إن المطالب التقليدية – والمشروعة تماماً – لليسار، مثل تحرير المرأة، مكافحة العنصرية، النضال ضد التمييز بحق المثليين، المساواة في الحقوق والفرص… وصلت جميعها إلى مستوى من “التقديس” لم يعد معه ممكناً أن يسائلها المرء أو ينتقد بعض انحرافاتها من دون أن يُوصَم فوراً بانه “يميني” أو حتى “يميني متطرف”. هذه تصنيفات رائجة جداً عند اليسار الراديكالي. وهكذا يصبح التفكير محظوراً في قضايا عدة.
على سبيل المثال، صار من الممنوع التفكير في انحرافات النسوية الجديدة نحو خطاب يقوم على تنديد منهجي يفتقر لأي تمييز بـ “النظام الأبوي”، وهو النظام الذي شهد في مجتمعاتنا تراجعاً مذهلاً خلال جيلين فقط. والأدهى أن بعضهن يذهب إلى تعميم تلك النزعة العدائية ضد “الرجال عموماً”، على اعتبار أنهم جميعا مذنبون افتراضياً، حتى يثبتوا العكس، بالمشاركة في “ثقافة اغتصاب”. لكن المفارقة أن هذا الحكم يستثني رجال المجتمعات الخارجة من الاستعمار، الذين يُعفى عنهم مبدئياً من أي نزعة ذكورية لمجرد أنهم ينتمون إلى خانة “المهيمن عليهم”، وبالتالي لا يمكن لهم، حسب هذا المنطق، أن يكونوا “مهيمِنين”.
بالمثل، أصبح من المُحرّم التفكير في انزلاقات مكافحة العنصرية حين تتحول إلى نضال ضد ما يسمى “الإسلاموفوبيا”، وهو مصطلح يُستخدم غالباً لإسكات أي نقد للتطرف الإسلامي. فهنا يقع الخلط المُتعمّد بين الإسلام كدين، والمسلمين كجماعة بشرية، والإسلاميين كتيار سياسي مُتشدد.
كما نجد أيضاً أن التساؤل حول شطط وتجاوزات بعض جماعات النشطاء المتحولين جنسياً صار محرّماً، إذ يُصنَّف كل معارض للتدخلات الطبية الجراحية على قُصَّر يعانون اضطراب في الهوية الجنسية، مثلا، بأنه مصاب بـ “فوبيا الترانس”، أي معاداة المتحولين جنسيا. وهذا بالرغم من أن معظم حالات القلق والهشاشة في سن المراهقة تختفي تلقائياً مع مرور الزمن، دون تدخلات دائمة لا رجعة فيها من قبيل جراحة تغيير الجنس.
أما في ما يخص النضال من أجل احترام الكرامة الإنسانية للمثليين، فقد تحول أحيانا إلى مُطالبة بـ”الحق في طفل”، أي حق المثليين في الأبوة، مُتجاهلين في كثير من الحالات مصلحة الأطفال النفسية، إذ يتم التلاعب بسجلات نسبهم من دون اكتراث.
باسم حرية التعبير، صار أيضاً من “المقدس” الدفاع عن حق نشر أي محتوى أو عمل فني، حتى أكثرها عنفاً أو استفزازا، بحجة الحرية الفردية أو “قدسية حرية الإبداع”.
– لقد كنتِ صريحة في انتقادك للجبهة الشعبية الجديدة (تكتّل أحزاب اليسار في فرنسا). وقلتِ: «الجبهة الشعبية الجديدة، التي صُممت على عجل فقط لتفادي أغلبية برلمانية مطلقة لليمين المتطرف، لم تستطع محو الهوة العميقة التي فتحتها منذ 7 أكتوبر 2023، انحرافات اليسار الراديكالي نحو معاداة الصهيونية على خلفيات معادية للسامية». بحكم خلفيتك اليسارية، هل تشعرين بأنك أصبحت “يتيمة” من اليسار بسبب هذه المواقف الانتهازية؟
– نعم، أشعر بأنني يتيمة فعلاً حين أرى جميع أحزاب اليسار – بما في ذلك الحزب الاشتراكي، الذي أنا عضو فيه – تنحرف نحو مواقف عبثية. على سبيل المثال: فكرة أن اليسار “فاز” في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وكأن مجرد الحصول على المرتبة الأولى يُعادل الفوز بالانتخابات! هذه مغالطة أطلقها جان لوك ميلونشون مساء الجولة الثانية من الانتخابات، ولم يكن يُفكر إلا بمصالحه الخاصة.
مثال آخر: الترويج بأن رفض الحجاب يندرج ضمن الـ “إسلاموفوبيا”، في حين أنه في أقصى الأحوال يمكن وصفه بأنه معادٍ للإسلاموية وليس للإسلام. هو (أي رفض الحجاب) قبل ذلك وبعد كل ذلك موقف نسوي وكوني وعلماني – أي أنه يندرج ضمن القيم الجوهرية لليسار.
لكن هذه الأسباب، يمكن القول بأنه قد انتهى عهد “اليسار الواحد”، وهناك اليوم “يسارات” متعددة. ولا يمكنني أن أعتبر نفسي في المعسكر ذاته مع أحزاب – مثل “فرنسا الأبية” والخُضر، وإلى حد ما الشيوعيين – لأنها تتستّر على معاداة السامية بعباءة “مناهضة الصهيونية”، وتدّعي الدفاع عن “المسلمين” فيما هي في الحقيقة تستثمر انتخابياً في نزعة إسلاموية ذكورية، معادية للمثليين ومعادية لليهود. إنهم يبيعون أنفسهم مقابل طبق عدس!
– اعتادت الساحة السياسية على رؤية اليمين المتطرف يهاجم “اليهود” باعتبارهم “الغريب غير المرغوب فيه”. كيف تفسرين انعكاس الصورة لدى حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبن، التي تقول إنها حامية اليهود منذ هجمات السابع من أكتوبر؟ هل “المسلم” أخذ دور اليهودي لدى تيارات اليمين المتطرف؟
– الإستراتيجية الحالية لقادة التجمع الوطني (ولا أقول الأمر نفسه عن بعض القواعد الشعبية للحزب التي لا تتبع هذا الخط) تتمثل في تبنّي قيم لطالما ارتبطت باليسار: الكونية، حقوق الإنسان، العمل، العلمانية، ومؤخراً مكافحة معاداة السامية.
نحن كيسار أنجزنا العمل، وهم يجنون الثمار! في مسألة معاداة السامية تحديدا الانعطافة مذهلة: لقد رأينا ذلك خلال تظاهرة 12 نوفمبر 2023 المناهضة لمعاداة السامية، والتي شاركت فيها مارين لوبان، بينما رفض جان-لوك ميلونشون المشاركة، مبرراً ذلك بأنه لا يريد أن “يصطف” إلى جانب التجمع الوطني، وربما كان الدافع الحقيقي انجرافه مؤخرًا نحو خطاب مداهن للإسلاميين بدعوى “الدفاع عن المسلمين”.
– كيف يمكن التحذير من خطر الإسلاموية اليوم من دون أن يُفهم ذلك كنوع من وصم الجاليات المسلمة بأكملها؟
– هنا لا بد من الدقة الصارمة في استخدام المفردات. يجب أن نقول: نحن نحارب الإسلاموية، لا الإسلام. ومع ذلك، في فرنسا، يحق للجميع انتقاد الدين الإسلامي مثل أي دين آخر، شريطة ألا يُستهدف بذلك المؤمنون أنفسهم. بالموازاة، يجب أن نقول إننا نحارب “الكراهية ضد المسلمين” (وهي مُجرَّمة قانوناً)، لكن ليس ما يسمى “الإسلاموفوبيا”، لأن الانتقاد الفكري للإسلام أو لأي دين حق مشروع. كما أن “العنصرية ضد المسلمين” لا أساس لها من الناحية المفهومية، إذ إن الدين ليس عرقا، لأنه قابل للتغيير أو التخلّي عنه – خلافا لما تزعمه الأصولية الإسلامية.
الأهم أن نذكّر مرارا بأن المسلمين أنفسهم هم الضحايا الأوائل للإسلاموية ولأعوانها وحلفائها من “اليسار الإسلاموي”.
– أليس جوهر المسألة حماية المكتسبات الفرنسية مثل العلمانية والنسوية؟
– بالتأكيد. الإسلاموية عدو لدود لكل من العلمانية والنسوية. فهي تقلّل من شأن المرأة وتُقيّدها وتُحجبها، وفي الوقت نفسه تقوّض العلمانية عبر محاولات متكررة لفرض الحجاب، أو لخلق “تعايش بين الأديان” داخل المدرسة، وهو أمر غير مقبول.
لقد انتُزعت حرية المعتقد بصعوبة بفضل الثورة الفرنسية، وهي مكسب لا يُقدّر بثمن يجب الدفاع عنه بلا تردد في وجه الهجمات المتكررة التي يشنها الإسلامويون، ومعهم أعوانهم من النقابات أو الأحزاب التي تعتقد أن “اليسارية” اليوم تعني الانصياع لكل مطالب الإسلامويين، بحجة أنه لا يجوز “ممارسة التفرقة بحق المسلمين”. هذه حماقات من المفروض أن تثير السخرية، لكنها يُدافع عنها بحدة من قبل بعض السياسيين. سواء بحسن نية أو بدافع الانتهازية الانتخابية.
– الجميع يعرّف العلمانية بحسب خلفيته الإيديولوجية. فما تعريفك لها؟ وهل تعتقدين أن فئات الشباب والطلبة على دراية كافية بماهية هذا المبدأ وأهميته؟
– المبدأ الأساسي للعلمانية يجب أن يكون واضحاً للجميع، بدءاً من الأساتذة قبل الطلاب. العلمانية ليست رفضاً للأديان، ولا مجرد “تعايش سلمي بين الأديان”، بل تتمثل في تعليق الانتماءات الدينية في الفضاء المدني العام، ولاسيما في المدرسة، حيث لا مكان لها إطلاقاً.
هذا شرط أساسي لضمان مسافة نقدية عن عمليات التلقين العائلي، تأسيسا لحرية الضمير، التي ينبغي أن تكون من من نصيب كل مواطن. بمجرد أن يصبح المرء بالغًا، أو في نطاق الحياة الخاصة، يمكن له أن يختار أن يؤمن أو ألا يؤمن. لكن المدرسة يجب أن تكون مكانا مفتوحا للمعرفة والتعلّم من دون أن تُطرح مسألة الإيمان، لأنها لا تندرج ضمن المعرفة، بل ضمن العقيدة.
– النسويات الجدد يُصرّحن بأن الحجاب في سياقات بعض البلدان قد يكون اختيارًا أو حرية شخصية. كيف يمكن شرح أبعاد هذه القضية للفتيات الفرنسيات اللواتي يعتبرن هذا اللباس تعبيرًا عن هوية؟
– على المستوى الفردي، يمكن الشعور بأن أي لباس عبارة عن “اختيار”. لكن يجب أن نفهم أن الفضاء العام ملك للجميع، وأن كل فرد مسؤول من خلال ممارساته عما يترتب في ذلك الفضاء. فعندما تتحجب فتاة أو امرأة، فإنها تسهم في تطبيع الحجاب بوصفه علامة على الانتماء الإسلامي (مع أنه غير مفروض نصاً في القرآن)، وفي الوقت ذاته تجعل “غير المحجبة” تبدو شاذة، أي قابلة للوصم والمعاقبة اجتماعياً. وهذا ما يُسمى “الضغط الجماعاتي”، وهو أكثر فداحة وخُبثًاً من أي منع قانوني عام يساوي بين الجميع.
إنها قضية مسؤولية، الفتيات في أحيائنا الفرنسية اللواتي يُطالبن بـ”الحق في ارتداء الحجاب” بوصفه حرية واختيارا، يجب أن يُدركن أنهن، بهذا السلوك، يُشرعنّ ويبررن فرض الحجاب قسريا على الإيرانيات، أو ما هو أسوأ من ذلك كوضع الأفغانيات اللواتي يُسجَنَّ تحت البرقع.
– هل لمصطلح “النسوية ما بعد الاستعمارية” decolonial أي معنى في نظرك؟
– لديه معنى فقط عند “النسويات الجدد” اللواتي يطبّقن مقاربة جماعاتية على قضية تحرير المرأة، فيُجزّئن النسوية حسب “المجتمعات” المفترضة للنساء، ويُشيطنّ “المرأة البيضاء” باعتبارها “مهيمنة” على النساء “المُعَرْقَنات”.
هذا الأمر، في الحقيقة، بمثابة نهاية الطموح الكوني للنسوية كما عرفتُها ومارستها طوال حياتي. لذا، فـ “النسوية ما بعد الاستعمارية” شعار فارغ من المعنى بالنسبة إلى مناضلة نسوية كونية مثلي.
– ما رأيك في التقرير الفرنسي الذي نُشر مؤخراً حول “تغلغل الإخوان والإسلام السياسي في فرنسا”؟
– بطبيعة الحال، هذا الاختراق يمثل خطراً حقيقياً، ويجب أخذه بجدية تامة. أما الضجة الإعلامية التي أثارها التقرير، فهي لا تُقارن بالحجم الحقيقي للمشكلة التي يضعنا هذا التغلغل الإسلاموي أمامنا.
– لقد كنتِ دوماً منتمية إلى اليسار. هل كان لنشأتك وإرثك العائلي تأثير في ذلك؟
– لقد نشأت في عائلة يسارية. كان والداي في موقع معارض لمواقف أجدادي، الذين كانوا على الأغلب أقرب إلى اليمين التقليدي (بل وربما ميّالين إلى التيار “الفيشي” من جهة والدتي). أبي كان ماسونياً منخرطاً في الحزب الاشتراكي؛ وأمي كانت شديدة الالتزام بمناهضة العنصرية والذكورية.
أُدين لهما بكوني دائماً اعتبرت تلك القضايا – أي النضال النسوي ومكافحة العنصرية – بديهيات لا نقاش فيها. بالنسبة لي، أن تكون يساريا معناه قبل كل شيء أن تعتبر أن المجتمع مسؤول عن دعم المستضعفين وهو ما يترتب عن ذلك من قبول دفع الضرائب، والاعتراف بدور الدولة التنظيمي، وكبح نزعات التسلط الفردي.
في الوقت ذاته، هناك إرث آخر، وهو إرث الأنوار، أي كونية حقوق الإنسان، حرية الضمير، وترسيخ العقلانية العلمية في مواجهة الخرافات. هذا هو ما أستمر في الدفاع عنه اليوم، حتى وإن اضطررت إلى مواجهـة “معسكري اليساري” حين ينحرف عن هذه المبادئ على نحو غير مقبول.
سيرة موجزة
ناتالي هاينيش: عالمة اجتماع، باحثة فخرية في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS).
أصدرت عدداً من المؤلفات حول مكانة الفنان، أزمات الهوية، القيم، وأيضًا حول إبستمولوجيا العلوم الاجتماعية.
من أبرز كتبها:
– «ما وراء الجميل والقبيح: قيم الفن» (Presses Universitaires de Rennes، 2014).
– «جرأة الكونية: ضد الجماعاتية» (منشورات Le Bord de l’eau، 2021).
– «تمزقات العلمانية» (بالمشاركة مع جان بوبيرو، منشورات Mialet-Barrault، 2023).
– «هل يمكن أن يكون الووك (تيار اليقظة) شمولية؟» (ألبان ميشيل، 2023).
– أحدث مؤلفاتها: «التفكير ضد معسكرك. مسار سياسي لمثقفة يسارية» (غاليمار، سلسلة “شهود”، مايو 2025).
