عندما ظهرت الحركة الاحتجاجية الفرنسية Bloquons tout (لنُغلق كل شيء)، التي يُطلق عليها في بعض الأحيان Tout bloquer (كل شيء محظور) للمرة الأولى في شهر مايو / أيار الماضي 2025، لم تنتشر فوراً خارج دوائر مجموعات “تيليغرام” السيادية المُغلقة، التي كانت تعمل بنوع من السرية. لكن الإعلانات المُتعلقة بالمُوازنة، التي قدّمها فرانسوا بايرو بعد شهرين، كانت الشرارة التي أعطت للحركة صوتاً أقوى.
ـكانت الفكرة بسيطة: “لا تذهبوا إلى العمل يوم 10 سبتمبر / أيلول، لا تستهلكوا أي شيء، وإذا لزم الأمر، شاركوا في عصيان مدني”.
في البداية، تم الخلط بينها وبين حركة Nicolas qui paie (نيكولا الذي يدفع)، وهي حركة مدعومة من اليمين الجمهوري المنزعج من فكرة دفع الضرائب لصالح من “لا يفعلون شيئاً”. لكن في نهاية المطاف، تم تشبيه “لنُغلق كل شيء” بحركة “السترات الصفراء” نظراً لأصولها الرقمية وطابعها الغامض، حيث يقودها مواطنون يزعمون أنهم “لا ينتمون لأي توجه سياسي”. لكن، كما هو الحال مع كل الظواهر التي تولد على الشبكات الاجتماعية، نشب سريعاً صراعٌ بين تيارين فكريين داخل الحركة، حول أساليب العمل والاتجاه الذي يجب اتخاذه.
على الجانب الآخر، هناك the Essentials (الأساسيون)، الذين يأملون في “العصيان المدني السلمي”. نُشرت صورة مرئية على حساب “Nouslesessentiels” على منصة “تيك توك” في 14 يوليو / تموز تدعو المستخدمين إلى إطلاق “إغلاق عام وغير محدود بدءاً من 10 سبتمبر / أيلول 2025”. وتربّع على رأس المجموعة شخصية تُدعى كريستيل من “فار”، إلى جانب جوليان ماريزو، الموصوف بـ”مُستشار ومُتحدث حرّ” والّذي أسّس منذ بضع سنوات تجمع Les Essentiels France (أساسيات فرنسا).
أما على الجانب الآخر فهناك حركة Indignons-nous! (لنغضب!) التي تلتقي أيضاً على “تيليغرام” في قناة تضم ما يقرب من 7 آلاف عضو. وسرعان ما انتشر نشاطها على “تيك توك” و”فيسبوك” و”ديسكورد” و”X” ومنصات أخرى. شعارها: تنظيم أكبر عدد ممكن من التجمعات الشعبية في جميع أنحاء فرنسا و”طرد الجميع”، مُستفيدين من قوة شبكات التواصل الاجتماعي.
جيش من الحسابات المزيّفة
ووفقاً لدراسة أجرتها وكالة الرصد الرقمي Visibrain (فيزيبراين)، والتي تمكّنا من الاطلاع عليها، فإن تأثير “Bloquons tout” يعود بدرجة كبيرة إلى قوة شبكات التواصل الاجتماعي، وخصوصاً “X” (تويتر سابقاً) و”تيليغرام” و”تيك توك” و”فيسبوك”.
بحسب التقرير، تم نشر أكثر من 70 ألف رسالة يومياً حول الموضوع، كما وثّقت Visibrain ما يزيد عن 840 ألف تغريدة على منصة “X”. ويُشير المحققون إلى أن هذا الرقم يُمثّل “حجماً أعلى بكثير مما تم تسجيله خلال حركة السترات الصفراء في العام 2018”.
خلف وسم #BloquonsTout ونجاحه، تقف آلاف الحسابات المجهولة، وقد أُنشئ مُعظمها خلال فصل الصيف، ما أسهم في ظاهرة تُعرف باسم “الترويج الشعبي الزائف”، وهي أسلوب يقوم على خلق انطباع زائف بوجود تأييد جماهيري واسع لقضية أو حملة معينة، بهدف زيادة التفاعل والمشاركة حولها، وهي طريقة مُجرّبة ومعروفة على شبكات التواصل الاجتماعي، لكن في هذه الحالة، تم رصدها مُبكراً من قِبل وكالة Visibrain.
سلطت الوكالة الضوء على وجود مُيول تآمرية متكررة في الحسابات التي تُنشر تحت وسم #BloquonsToutK، مُشيرة إلى أن “هذه الحسابات المُزيفة أسهمت بشكل كبير في تعزيز الحركة وزيادة ظهورها”. ويُضاف إلى ذلك حسابات تنشر أكثر من ألف تغريدة يومياً، ما ساعد في تضخيم الحركة ودفع الوسوم المرتبط بها إلى قوائم أكثر تداولاً. إنها بلا شك عملية ترويج زائفة”، وهو ما يؤكده تييري هيران، الخبير الرقمي والشريك في دراسة Visibrain.
من هذا المنطلق، فإنه من الصعب تمييز الأمور وتقييم الفرق بين التعبئة الشعبية الحقيقية؛ كما كان الحال مع “السترات الصفراء”؛ وبين عمليات التلاعب الرقمية البحتة، مثل تلك التي شهدناها سابقاً، والتي نُسِبت بشكل خاص إلى الصين أو روسيا خلال الانتخابات التشريعية المبكرة الأخيرة، والتي كشفت عن تدخلات تهدف إلى إرباك المستخدمين الفرنسيين.
ومع ذلك، فإن بعض الشخصيات السياسية التي اختارت دعم الحركة لعبت دوراً مهماً في تعزيز صداها، وتعميق حالة الاستقطاب التي رافقتها. ومن بين هؤلاء، يبرز اسم جان لوك ميلونشون، زعيم حركة فرنسا الأبية (La France Insoumise)، الذي عبّر علناً عن دعمه للتعبئة من خلال منشوراته عبر وسائل التواصل الاجتماعي وظهوره الإعلامي.
أدى هذا الانخراط إلى دفع الجناح اليميني داخل الحركة إلى هامش صغير، بعدما كان جزءاً من نسيج متنوع من الأصوات في بدايات حركة “Bloquons tout”، والتي جمعت بين ناشطين من اليمين المتطرف، واليسار المتطرف، وأصوات أخرى مُناهضة للنظام القائم.
إلى جانب ميلونشون، عبّر أيضاً قادة آخرون من حركة “فرنسا الأبية” عن دعمهم، بالإضافة إلى حزب الخُضر (Europe Écologie Les Verts) بقيادة مارين تونديلييه، الذين أصرّوا على ضرورة عدم “الاستحواذ السياسي” على الحركة.
صراع سياسي
على صعيد الحزب الاشتراكي، لا تزال الانقسامات مستمرة بلا نهاية. شخصيات مثل أوليفييه فور تبنّت موقفاً مُتقارباً مع خط “حزب الخُضر”، حيث صرّح قائلًا: “سنكون حاضرين في يوم 10 سبتمبر / أيلول وفي الأيام التي تليه، ليس لتوجيه هذه الحركة، أو ترويضها أو استغلالها أو إخضاعها، بل لإعطائها مَخرجاً سياسياً لا تُهيمن عليه أقصى اليمين”، وذلك خلال مشاركته في الجامعة الصيفية لـ”حزب الخُضر”.
الموقف نفسه تبنّاه كريم بوعمران، رئيس بلدية سانت أوين سور سين… الأمر الذي أثار انتقادات على منصة “X” من قبل بيرنيل ريشاردو، عضو مجلس بلدية مدينة ستراسبورغ عن الحزب الاشتراكي، والتي أبدت خيبة أمل واضحة من دعم زميلها لما وصفته بــ”حركة شعبوية”. أما الرفض، فقد كان أكثر وضوحاً من جانب كل من فرانسوا هولاند ورافاييل غلوكسمان، اللذين فضّلا الابتعاد عن المشهد واتخاذ موقف حذر.
على العكس من ذلك، في معسكر اليمين المتطرف، لم يتردد كل من فلوريان فيليبو وحليفته ميريام بالومبا؛ المعروفة بمواقفها المناهضة للقاحات؛ في نقل نداء المشاركة ودعمه. فقد كتب فيليبو على حسابه في منصة “X”: “النقابات في التحالف النقابي تريد ‘التعبئة’ في 18 سبتمبر / أيلول، في الواقع من الجيد جداً جداً أن هذه النقابات الخائنة تنأى بنفسها عن 10 سبتمبر / أيلول؛ فهي تفسد كل شيء!”.
لكن، وعلى خلاف أحد أعضائه السابقين، اختار حزب التجمع الوطني (Rassemblement National – RN) النأي بنفسه عن الحركة. فقد أعلنت إدوفيج دياز، نائبة رئيس الحزب، لوكالة الصحافة الفرنسية (AFP) في22 أغسطس / آب قائلة: “إن حزب التجمع الوطني لا يرى أن من دوره إطلاق أو تنظيم التظاهرات”، مؤكدة أن الحزب لن يصدر أي توجيهات لأنصاره. وأضافت النائبة عن منطقة جيروند: “بصفتنا حزباً سياسياً، فإن دورنا هو تقديم حلول لمخاوف المواطنين، وليس الاحتجاج بصخب”.
في نهاية المطاف، يبقى التساؤل قائماً: هل يُكتب لهذا الحراك الشعبي الاستمرار، أم أنه مجرّد موجة عابرة؟












