تقرير ميداني

تنظيم “القاعدة” يسيطر على مناطق شاسعة في مالي ويستنسخ “نموذج طالبان” في الحكم

بقلم محرر الشؤون الإفريقية: على مهاجر
بقلم محرر الشؤون الإفريقية: على مهاجر

نجح تنظيم “نصرة الإسلام والمسلمين” أو “القاعدة في الساحل” في بسط سيطرته على مناطق واسعة في مالي بالتعاون مع حليفه جبهة تحرير ماسينا، ليقوم التنظيمان بمحاصرة العاصمة المالية باماكو من جميع الاتجاهات وقطع الإمدادات عنها بشكل غير مسبوق منذ سبتمبر الماضي.

التنظيمان استغلا الفراغ الأمني الكبير الذي أحدثه رحيل القوات الفرنسية عام 2022، ثم انسحاب قوات الأمم المتحدة، وكذا إغلاق القواعد العسكرية الأميركية في النيجر، ما أتاح لهما التمدد جنوباً لأول مرة ومن ثم السيطرة على الطرق التجارية المؤدية للعاصمة باماكو، بعد أن سبق لتنظيم القاعدة قطع الإمدادات عن المناطق الشمالية غداة سيطرته على الطرق التجارية التي تُغذي الشمال من الجزائر وموريتانيا.

وعمد تنظيم القاعدة إلى الالتفاف غرباً نحو السنغال لاستهداف أهم الطرق الحيوية التي تمد العاصمة باماكو وغيرها من مدن الجنوب، بعد إغلاق شبه تام للطرق وشل حركة نقل البضائع بين مالي وجيرانها، ما أدى إلى خنق تام للعاصمة الرازحة تحت أزمة اقتصادية خانقة منذ خروجها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إكواس)، وإعلان اتحاد جديد مع الحليفتين (النيجر وبوريكنافاسو) اللتان تعيشان أزمة مماثلة.

ونجحت الجماعات الإرهابية في مالي بشكل كبير في استغلال انحسار سلطة الدولة عن مناطق متعددة في البلاد، بعد انسحاب مليشيات فاغنر الروسية في يونيو الماضي، بعد أن حل الفيلق الأفريقي الروسي مكانها، والذي لا يبدو أنه سيمارس دور الشرطي مثل سلفه، بعد تقارير تشير إلى تركيز القوة الروسية على حماية النظام من السقوط وعلى مناجم الذهب.

ويعيش النظام العسكري في مالي بقيادة عاصمي غويتا لحظات حرجة منذ تعطيله لعملية الانتقال السياسي، التي وعد بها منذ تسلمه السلطة عام 2021 كرئيس للجنة الوطنية لإنقاذ الشعب، بدعوى عدم الاستقرار ومحاربة الإرهاب، لتتوالى على البلاد أزمات تلو أخرى، انتهت باستهداف النظام لقوى المعارضة ولكل المناوئين والمنتقدين للمرحلة الحالية.

القاعدة ونموذج طالبان

 أدت هذه الظروف، إلى توسع كبير للجماعات المتطرفة، خاصة تنظيم النصرة (القاعدة) الذي بات يُقدم نفسه نموذجا للحكم في شتى القرى والمدن والحواضر، التي شهدت اعتداءات وعمليات قتل اتهم فيها الجيش المالي ومليشيات “فاغنر” بعد رصد الأمم المتحدة لمئات العمليات الدموية التي مارسها شمالاُ وجنوباً بزعم مُطاردة الإرهابيين، وهي عمليات استهدفت في معظمها مدنيين من الطوارق والفلان وغيرهم من الرعاة والمزارعين.

وانتشرت تسجيلات صوتية عبر “واتساب” ولقطات فيديو تُثني على “الحكم الرشيد” لتنظيم القاعدة في المناطق التي أصبحت تحت سيطرته، ووصل الأمر إلى دعوة صريحة من رؤساء قبائل ومجتمعات، أرسلوا بَيعتهم لزعيم التنظيم “إياد أغ غالي” لحمايتهم من الجيش المالي والمليشيات الروسية، ومن التنظيمات المنافسة وعلى رأسها داعش.

 يقول أخمدو أغ عالي أحد سكان منطقة “منكا” القريبة من حدود النيجر، في تسجيل صوتي، “ندعو جماعة النصرة إلى القدوم فوراً لإنقاذنا من داعش ومن الجيش المالي ومن اللصوص.. لا نشعر بالأمان نحن مهددون في اية لحظة، نرغب في قدوم جماعة النصرة لحمايتنا وتطبيق الشريعة كما فعلوا في الشمال”.

 وتأثر سكان هذه المناطق، وبالخصوص منهم  الـ”منكا” من اعتداءات لا تنتهي من قبل عناصر الجيش المالي ومليشيات “فاغنر”، بعد أن انتشرت تسجيلات فيديو لعمليات قتل ممنهجة مورست ضد سكان هذه المناطق، التي رأت في القاعدة بديلاً بسبب نهجها الشبيه حسب محللين بنموذج طالبان في التسلط وتطبيق الشريعة  تحصيل الزكاة.

 أين جبهة تحرير أزواد؟

 في الموازاة وعلى نفس الأرض تتقاطع ثلاث جماعات رئيسية أصبحت سيدة المشهد في الأسابيع الأخيرة، ففضلاً عن تنظيم القاعدة الآخذ في التمدد، وحليفه ماسينا، فاجأت “جبهة تحرير أزواد” المراقبين بتحركات واسعة على الصعيدين السياسي والعسكري، منذ إعلان توحيد جميع الفصائل التي كانت تمثل الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام في فصيل موحد بمسمى “جبهة تحرير أزواد” في سبتمبر 2024.

 وشهدت الجبهة انتكاسة عسكرية بعد احتلال مليشيات “فاغنر” والجيش المالي معقلها الرئيسي في كيدال في نوفمبر 2023 حيث مُنيت بخسائر عسكرية فادحة بسبب التفوق العسكري للجيش المالي بفضل استخدامه لطائرات مسيرة، زودته بها تركيا، استطاعت مطاردة الأزواديين ودحرهم نحو منطقة تينزواتن على الحدود الجزائرية.

 وتمكن الأزواد سريعاً من استعادة زمام المبادرة في معركة تينزواتن نهاية يوليو 2024، التي قتلوا فيها مئات من المرتزقة الروس ومن الجيش المالي، تلتها عملية مماثلة ضد الفيلق الأفريقي الذي حل مكان “فاغنر” في مالي في يونيو 2025، أدت إلى تدمير رتل قادم من غاو نحو أجلهوك، كان يتشكل من عشرات المركبات والجنود الماليين والروس تم القضاء عليهم.

بعد سلسلة من العمليات التي مَكنت الجبهة من العودة جُزئياً إلى معاقلها، كشفت في عملياتها عن استخدامها لأول مرة لطائرات من دون طيار، يُرجح أنها من ضمن العتاد العسكري الذي استولت عليه في عمليات القتال.

 وفي تصريح لـ “غلوبال ووتش عربية”، قال ممثل الجبهة للشؤون الخارجية أتاي أغ محمد، خلال مقابلة معه في باريس: “إن الجبهة تعمل في الوقت الراهن، من خلال قيادته السياسية، على التواصل مع المجتمع الدولي لتوضيح عدالة القضية الأزوادية التي تاجر بها الساسة كثيراً في مالي لعدم فهم العالم لها. فالعالم أصبح على دراية واضحة بعدالة قضيتنا، ونحن مع مسارات السلام لحماية الشعب الأزوادي من الإبادة والتشريد التي يتعرض لها”.

 وأضاف: “نحن نتواصل مع الجميع، مع الأمم المتحدة، ومع منظمة إكواس، ومع الاتحاد الأوروبي، وحتى مع المعارضة في مالي، نحن مع أي حل سياسي يقر حقوق الشعب الأزوادي بكل أطيافه وأعراقه”.

وأوضح أتاي قائلاً: “نحن نمذ يد السلام للجميع، ونُدافع على الأرض عن سكان أزواد لحمايتهم من الإبادة ومن التهجير، بعد أن طُرد نصفهم إلى دول الجوار بسبب التصفية العرقية الممنهجة التي تعرضوا لها على يد العسكريين الماليين ومليشيات “فاغنر” الروسية”.

 ورغم تصريحات أتاي المتحفظة بعض الشيء، فإن نشطاء ومدونين من أزواد أوضحوا أن هدف الجبهة الواضح هو استقلال أزواد التام عن مالي، بعد عقود من المرارة والتلاعب بمصير المنطقة، حولتها إلى أكبر تجمع للجماعات الإرهابية والمافيا الدولية التي اتخذتها مسرحاً لنشاطها في الاتّجار بالبشر والمخدرات.

 ولا تبدو الأمور سهلة ولا الحلول قريبة في أزواد ودول الجوار في الساحل الأفريقي، وسط الطفرة التي تعيشها الجماعات الإرهابية التي أصبحت تستقطب آلاف العاطلين من شباب دول غرب أفريقيا اليائسين لتجنيدهم وتحويلهم إلى وقود لمعركة طويلة لا تبدو نهايتها قريبة، بعد أن ولاها العالم ظهره وتركها لمصيرها المجهول، وهو وضع لن يكون من السهل الخروج منه دون تكاتف حقيقي من القوى والمنظمات الدولية.