منذ حلّ الجمعية الوطنية، الذي دعا إليه الرئيس إيمانويل ماكرون، في يونيو/حزيران 2024، وفرنسا تشهد حالة غير مسبوقة من الاضطراب السياسي والأزمات الحكومية المتوالية التي أفرزت تداعيات اقتصادية واجتماعية جسيمة ما تزال فصولها تتوالى مهدّدة بتقويض الاستقرار في البلاد.
بدأت الأزمة بنتائج برلمانية مجزأة عقب انتخابات تشريعية في صيف العام الماضي، أسفرت عن سلسلة من حكومات الأقلية “قصيرة الأجل”، واجهت كل منها تحديات في إقرار الميزانيات وتنفيذ إصلاحات مجدية. إلى أن جاءت الاستقالة الأخيرة لحكومة رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو، بعد أقل من 24 ساعة من تشكيلها، لتخطّ الفصل الأخير في مسلسل الاضطراب المستمر، وتكون بذلك أقصر الحكومات عمراً في تاريخ فرنسا الحديث.
بدلاً من إيجاد مخرج للمأزق التشريعي، عمّق حلّ الجمعية الوطنية الجرح. وأدى هذا التشرذم إلى ولادة ثلاث حكومات برئاسة رؤساء الوزراء ميشيل بارنييه، وفرانسوا بايرو، وسيباستيان لوكورنو. حيث انهارت إدارتا بارنييه وبايرو بسبب خلافات حول الميزانية، فيما استقال الأخير بشكل دراماتيكي وسط توترات في الائتلاف الحاكم.
تباطؤ النمو وتقلبات السوق
كان لعدم الاستقرار السياسي تأثير مباشر على الاقتصاد الفرنسي. وتوقعت المفوضية الأوروبية تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد إلى 0.6% في عام 2025، بانخفاض عن 1.1% في عام 2024. ويُعزى هذا إلى ضعف ثقة المستهلكين والشركات، والمخاوف من زيادات ضريبية، وتراجع الدعم العام. كما انخفض نمو استهلاك الأسر إلى النصف ليصل إلى 0.5% سنوياً، وارتفع معدل الادخار إلى 19%، وهو الأعلى أوروبياً.
وانخفض الاستثمار التجاري في البلاد بنسبة 1.5% بدءاً من يونيو الماضي، وسط مخاوف بشأن الاستقرار المالي واحتمال فرض رسوم إضافية على ضرائب الشركات. وقد عطلت الأزمة عملية تعيين قادة الشركات الحكومية الجدد، مما ساهم في شلل الحكومة وزيادة الضغط على المالية العامة، بتكلفة تُقدر بـ 4 مليارات يورو.
وبحسب المرصد الفرنسي للظروف الاقتصادية (OFCE)، الذي يقيّم تأثير حالة الإرباك السائدة، ستبلغ تكلفة الأزمة السياسية بحلول نهاية 2025، قرابة 0.5% من النمو، أي ما يعادل 15 مليار يورو.
تداعيات الأسواق المالية
وكما كان متوقعاً، تجاوبت الأسواق المالية الفرنسية مع الأزمة السياسية المتفشية في البلاد بالانحدار، سواء لجهة الأسهم في البورصة أو أسعار الفائدة. ففي أعقاب استقالة رئيس الحكومة لوكورنو، انخفض مؤشر “كاك 40” للأسهم القيادية بأكثر من 2%، مرتفعاً 8% فقط منذ بداية العام، مقارنة بصعود يتراوح بين 15% و25% في المراكز المالية الأوروبية الرئيسية الأخرى. كما قفزت تكاليف الاقتراض، وهبطت أسهم البنوك.
في غضون ذلك، اتسعت فروق أسعار الفائدة على السندات الفرنسية الرئيسية بنقطتي أساس اثنتين. وتكمن المعضلة الأساسية لتمدّد الأزمة في هذا الشأن في ارتفاع معدلات الاقتراض الفرنسي لأجل عشر سنوات، والتي تتجلى من خلال الفارق في معدلات الفائدة مع ألمانيا المعروف بـ”سبريد”، وصعد هذا الفارق بنحو 0.3 إلى 0.4 نقطة مقارنة بالفترة التي سبقت حل الجمعية الوطنية.
ويكمن القلق أيضاً في التدهور التدريجي والمزمن للمالية العامة، إذ وصلت الديون الفرنسية العامة إلى رقم قياسي تخطى 3.4 تريليون يورو. ناهيك عن خطر تدهور التصنيف الائتماني أكثر من قبل وكالات التصنيف ذات الصلة. وبالفعل، خفّضت “فيتش” تصنيف فرنسا الائتماني إلى (A-1)، مشيرةً إلى محدودية مجال الإصلاح المالي في ظل حالة عدم اليقين السياسي، ما قد يؤدي إلى زيادة تكلفة الديون. بينما سلّطت نظيرتها “ستاندرد آند بورز غلوبال” الضوء على الإنفاق الحكومي المفرط وصعوبة إقرار ميزانية متوافقة عبر برلمان فرنسي منقسم على نفسه.
على الرغم من هذه التحديات، يعرب بعض الاقتصاديين عن تفاؤلهم بانتعاش محتمل، مشيرين إلى أن الاستثمارات قد تستأنف بمجرد عودة الاستقرار. لكن، لا تزال مؤشرات التباطؤ الاقتصادي في فرنسا حادة بشكل غير معتاد مقارنةً بنظيراتها الأوروبية.
الاضطرابات الاجتماعية والمعنويات العامة
أدت المناكفات السياسية والاقتصادية أيضاً إلى اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق، إذ دعت حركة “لنغلق كل شيء” (Bloquons tout)، إلى إضراب عام وإغلاق في مختلف مناطق البلاد احتجاجاً على إجراءات التقشف التي اقترحتها الحكومة. فتعطلت وسائل النقل والحياة اليومية في عدة مدن فرنسية، بما في ذلك باريس وبوردو ورين.
وفي إقليم مارتينيك الفرنسي الكاريبي، في سبتمبر/أيلول 2024، اندلعت احتجاجات تعارض ارتفاع تكاليف المعيشة والتفاوت الاجتماعي. الأمر الذي تسبب بمواجهات عنيفة مع قوات الأمن والشرطة، وزادت من الضغوط على قدرة الحكومة على حفظ النظام ومعالجة المظالم العامة.
آفاق التعافي
اليوم، يتوقف مسار التعافي الاقتصادي في فرنسا على حل الأزمة السياسية أولاً. ويشير محللون إلى أن تعيين رئيس وزراء جديد من خارج معسكر ماكرون السياسي أو الدعوة إلى انتخابات جديدة قد يُسهم في كسر الجمود. ومع ذلك، يحمل كل خيار مخاطرَ زيادة عدم الاستقرار أو تحولاً في السلطة السياسية قد لا يتماشى مع أجندة الإصلاح الحكومية.
في غضون ذلك، ربما يحتاج البنك المركزي الأوروبي إلى النظر في إجراء تدخلات سريعة لضبط الأوضاع إذا طالت الأزمة، حيث إن استمرار الشلل المؤسسي قد يُقوّض النمو أكثر ويُعقّد جهود استقرار المالية العامة.
ختاماً، يُمكن القول إن الأزمة السياسية في فرنسا كانت العنوان الأبرز والمقدمة لظهور تحديات اقتصادية جسيمة، شملت تباطؤ النمو، وتقلبات السوق، واضطرابات اجتماعية غير محدودة. كما أسهم عجز الحكومة عن تنفيذ الإصلاحات وضبط الاستقرار إلى تآكل ثقة الجمهور وإرهاق الاقتصاد. لذا، تتطلب معالجة الأزمة إجراءات سياسية حاسمة لاستعادة الحوكمة وتنفيذ سياسات من شأنها تعزيز الانتعاش الاقتصادي. من دون هذه السياسات، ستكون فرنسا مكشوفة أمام مزيد من الفوضى السياسية والركود الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي.











