منذ سقوط النظام السوري السابق في أواخر العام 2024، والشرق العربي يعيش على إيقاع تبدّل خرائط النفوذ والذاكرة. لبنان، الذي خبرَ طويلاً وطأة الجغرافيا والسياسة السورية على يوميّاته، يجد نفسه اليوم أمام سوريا جديدة بلا الأسد، لكنها ليست بلا ظلاله بعد. تحاول دمشق إعادة رسم صورتها، وتبحث بيروت عن معادلة تحفظ التوازن بين الحذر والانفتاح، في علاقةٍ تشبه السير على جسرٍ معلّق بين ماضٍ مثقل وحاضرٍ متبدّل.
اختبار أول لمرحلة “ما بعد الوصاية”
حين زار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بيروت في مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بدا المشهد مشحوناً بفضول المراقبين وحذر السياسيين. لم يحمل الرجل خطابات ولا لافتات أيديولوجية، بل ملفات تقنية تتعلق بالتهريب واللاجئين والأمن الحدودي. ولعلّ اللافت أن الوفد السوري لم يطلب لقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري، وهو ما فسّره المراقبون على أنه رسالة مدروسة مفادها أن دمشق تريد طيّ صفحة اللقاءات “الرمزية”، والتركيز على “العملي والمباشر”. بكلمات أخرى: عودة بلا ضجيج، وشراكة بلا وصاية.
وفي المقابل، شكّل لقاء رئيس الجمهورية اللبنانية جوزف عون مع الشيباني محطة مفصلية في مسار العلاقات اللبنانية–السورية بعد التغيير في دمشق، فهو أول اختبار عملي لجدّية “سوريا الجديدة” في طيّ صفحة الوصاية، وبداية مرحلة من الانفتاح الحذر الذي يوازن بين المصالح والسيادة.
إلغاء المجلس الأعلى السوري–اللبناني
الرئيس عون أكد أن لبنان يريد علاقة “مؤسساتية” مع دمشق، عبر القنوات الدبلوماسية الرسمية لا الأمنية أو الحزبية، فيما أشار الوزير الشيباني إلى أن سوريا “تحترم خصوصية لبنان وسيادته”. هذا الخطاب بدا جديداً في نبرته، لكنه لا يزال بحاجة إلى ترجمة عملية على الأرض. وقد جاء إلغاء المجلس الأعلى السوري–اللبناني ليشكّل الخلفية السياسية الأبرز وراء اللقاء بين الوزير الشيباني وعون. فالقرار السوري، الذي أنهى رمزاً مؤسساتياً لعقود الوصاية، عبّر عن رغبة دمشق الجديدة في إعادة بناء العلاقة مع بيروت على أساس الندّية والسيادة، لا “الأخوّة الإلزامية”.
بالنسبة للبنان، مثّل الإلغاء تحولاً نوعياً طال انتظاره، وفتح الباب أمام مقاربة أكثر توازناً للملفات الثنائية — من الحدود إلى اللاجئين والتبادل التجاري. أما اللقاء نفسه، فكان ترجمة عملية لهذا التحول: انتقال تدريجي من علاقة وصاية إلى علاقة مؤسساتية متكافئة، مع استمرار الحذر المتبادل واختبار النوايا.
ومن جهتها، تعاملت الحكومة اللبنانية برئاسة نواف سلام ببرودة محسوبة. رحّبت بالزيارة، لكنها أبقت سقفها في حدود “التعاون الفني”، إدراكاً منها لحساسية الداخل اللبناني الذي لا يزال ينقسم حول كلّ ما يحمل اسم “سوريا”.
ملف الاغتيالات.. عقدة الماضي في طريق الانفتاح
إلى جانب القضايا الحدودية والسيادية، طُرح خلال لقاء الشيباني–عون ملف الاغتيالات السياسية كاختبار حقيقي لصدقية الانفتاح بين بيروت ودمشق. الجانب اللبناني طلب تعاوناً قضائياً وفتح الأرشيف الأمني، فيما أبدى الشيباني استعداداً مبدئياً لتقديم معلومات عن المرحلة السابقة، مع التأكيد بأن الحكومة الحالية “لا تتحمل إرث النظام السابق”. لكن على الرغم من الرمزية الإيجابية، يبقى الملف محاطاً بالحذر والتعقيد، إذ يلامس ذاكرة دموية يصعب تجاوزها من دون عدالة واضحة ومصارحة متبادلة.
ملفات ثقيلة على الطاولة
لم تكن الزيارة بروتوكولية فقط. ففي الجلسات المغلقة، طُرحت أربعة ملفات أساسية لا تزال تعوق تطبيع العلاقة بين البلدين:
- الحدود والمعابر غير الشرعية: ما زالت الحدود الشرقية مرتعاً للتهريب، من المازوت إلى الكبتاغون، على الرغم من الاتفاق الأمني الموقّع في نيسان الماضي. الجانب السوري وعد بتعزيز الرقابة المشتركة، لكن التنفيذ على الأرض لا يزال جزئياً.
- اللاجئون السوريون: أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ يعيشون في لبنان وسط أزمات معيشية خانقة. اتُّفق مبدئياً على عودة طوعية تدريجية بإشراف الأمم المتحدة، إلا أن بيروت تشترط ضمانات أمنية وحقوقية لم تتحقق بعد، فيما تطلب دمشق رفع العقوبات لتأمين البنى التحتية اللازمة لاستقبال العائدين.
- الأسرى والمفقودون: ملف إنساني مؤلم يختزن ذاكرة الحرب والوصاية. الجانب السوري وافق على فتح جزئي للأرشيف، لكنّ العائلات اللبنانية تطالب بكشفٍ شامل للأسماء والمواقع. إنه جرح مفتوح لم تُكتب له بعد نهاية عادلة.
- التبادل الاقتصادي: على الرغم من الإرهاق الاقتصادي في البلدين، هناك رغبة مشتركة في فتح المعابر أمام التجارة والزراعة والصناعة، شرط ألا تتحوّل الشراكة الجديدة إلى واجهة لهيمنة اقتصادية جديدة.
- الموقوفون السوريين في السجون اللبنانية: يُعدّ هذا الملف أكثر القضايا حساسية في العلاقة بين بيروت ودمشق بعد التغيير في سوريا، إذ يضم مئات الموقوفين بتهم متفاوتة، بين من يُلاحَقون في قضايا إرهاب وانتماء لتنظيمات متطرّفة مثل “داعش” و”جبهة النصرة” (يُقدَّرون بنحو 30 إلى 40%)، وبين أغلبية موقوفة بتهم جنائية أو إدارية كالدخول غير الشرعي أو مخالفات الإقامة، إضافةً إلى فئة محتجزة منذ سنوات بلا محاكمة واضحة. وخلال زيارة الشيباني إلى بيروت، طُرح الملف كأولوية إنسانية، حيث دعا إلى مراجعة قانونية شاملة لأوضاع كل هؤلاء المساجين وإعادة من أنهوا محكومياتهم إلى سوريا بضمانات أمنية وإنسانية، فيما أبدى الرئيس عون انفتاحاً مشروطاً على المعالجة ضمن الأطر القضائية اللبنانية وبإشراف دولي، في خطوة يُنظر إليها كاختبار لصدقية التعاون بين الدولتين وحدود الثقة المتبادلة في مرحلة الانفتاح الحذر.
دمشق تتغيّر… ولكن إلى أين؟
السلطة السورية الانتقالية برئاسة أحمد الشّرع تبذل جهوداً حثيثة لإقناع العالم بأنها تمثّل “الجمهورية السورية الثالثة”: جمهورية بلا بعث، بلا أجهزة أمن متغوّلة، وبلا تحالفات قسرية. فقد ألغت الحزب الحاكم، وبدأت بإصلاحات دستورية تدريجية، فيما فتحت قنوات تواصل مع دول الخليج وتركيا والأردن، في محاولة لاستعادة الشرعية الإقليمية. لكنّ هذا “التغيير الهادئ” لا يزال هشّاً. فمراكز القوى القديمة لم تُمحَ بعد، والعلاقة مع إيران وميليشياتها، وفي مقدمتها حزب الله، لا تزال ملتبسة.
لبنان بين الحذر والفرصة
على الرغم من أن دمشق الجديدة تتحدث بلغة المصالح، إلا أن كثيرين في بيروت يراقبونها بعين الريبة، خوفاً من عودة النفوذ السوري عبر الباب الناعم هذه المرة: الاقتصاد والتجارة والأمن الحدودي.
يدرك لبنان أن الموقع الجغرافي لا يُمحى بالثورات، وأن أمنه واقتصاده مرتبطان حُكماً بجاره السوري. لكنّ الذاكرة السياسية ما زالت جريحة: من الاغتيالات والاعتقالات إلى سنوات الوصاية التي تركت أثرها في الوعي الوطني اللبناني. لذلك تحاول بيروت أن تبني علاقة “ندّية” مع دمشق، تفاديا للانزلاق مجدداً إلى فخّ التبعية.
حكومة نواف سلام ترى أن التنسيق مطلوب “في الملفات السيادية فقط”، لا في المحاور السياسية. أما القوى اللبنانية، فانقسمت كالعادة: فريق يرى في الانفتاح على سوريا فرصة اقتصادية لا بد منها، وآخر يعتبر أي تقارب، مهما كان فنياً، مقدمة لعودة النفوذ بوجه جديد.
ما بين الحذر والأمل
مهما اختلفت القراءات، تبقى الحقيقة أن لبنان وسوريا محكومان بالتعايش. لا يمكن لبيروت أن تغلق حدودها في وجه دمشق، ولا لدمشق أن تستقرّ من دون استقرار لبنان. الرهان الحقيقي يكمن في القدرة على تحويل الجغرافيا من لعنة إلى شراكة، والتاريخ إلى تجربة تعلّم لا تُعاد.
العلاقات بين البلدين اليوم تشبه تماماً ما يعيشه المشرق برمّته: مسافة قصيرة بين الفرصة والانفجار، بين البناء وإعادة الانزلاق إلى الماضي. سوريا تتبدّل، ولبنان يتبدّل بدوره، لكن ما لم تتبدّل هو حقيقة الترابط القسري بين مصيري الجارين.
ربما كانت زيارة الشيباني لبيروت مجرّد بروفة لعلاقة جديدة، أو ربما إشارة أولى إلى طيّ صفحة عقود من النفوذ والدم. لكن المؤكّد أن التاريخ لا يعيد نفسه حرفياً، بل يتكرّر بأشكالٍ مختلفة حين لا نتعلّم دروسه.
وما بين “سوريا ما بعد الأسد” و”لبنان ما بعد الانهيار”، يبقى الأمل الوحيد أن يتقن الجاران أخيراً فنّ العيش بلا وصاية… ولا قطيعة!





