بقلم يوسف موسى
بقلم يوسف موسى

مقالات مشابهة

تحليل سياسي

بول بيا.. حاكم الكاميرون الأبدي!

بقلم يوسف موسى
بقلم يوسف موسى

يعيش الشعب الكاميروني منذ أكثر من أربعة عقود، تحت حكم رجل واحد أصبح رمزاً لاستمرارية السلطة في إفريقيا، هو بول بيا، الذي تولى رئاسة البلاد عام 1982، ولا يزال متمسكاً بمقاليد الحكم حتى اليوم. وقد أعيد انتخابه مؤخراً ليصبح عهده ثاني أطول فترة حكم في العالم بعد رئيس غينيا الاستوائية تيودورو أوبيانغ نغيما مباسوغو، الجالس على الكرسي منذ عام 1979، وهي أطول فترة حكم لرئيس دولة على قيد الحياة خارج الأنظمة الملكية.

مع اقتراب بيا من الثانية والتسعين، تكثر التساؤلات حول مستقبل الكاميرون بعد رحيله، وما إذا كان هذا البلد المنقسم إثنياً ولغوياً وسياسياً قادراً على عبور مرحلة ما بعد الزعيم من دون فوضى، الأمر الذي يثير نقاشاً داخلياً وخارجياً حول أثر الزعامات الطويلة على الاقتصاد والتنمية والاستقرار الاجتماعي، فضلاً عن قدرة المؤسسات على الصمود في غياب قيادة مركزية قوية.

الحاكم الذي لا يشيخ

عند توليه الحكم خلفاً للرئيس الأول أحمدو أهيجو عام 1982، بدا بول بيا تكنوقراطياً هادئاً يسعى لتحديث الإدارة وتحقيق التنمية. لكن سرعان ما تحوّل إلى زعيم أوتوقراطي يمسك بخيوط الدولة ويحوّل المؤسسات إلى أدوات شكلية تخدم بقاءه. ومع مرور السنوات أصبح النظام قائماً على مزيج من السيطرة الأمنية وتوزيع المناصب على أساس الولاء، بينما أصبحت المعارضة رمزية لا تهدد النظام فعلياً. وبالطبع، ساعدته فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، على تثبيت أركانه، مفضلة الاستقرار على أي تغيير قد يربك مصالحها في إفريقيا الوسطى.

وعلى الرغم من أن حكم بيا وفّر هدوءاً نسبياً على الساحة السياسية، إلا أن الثمن كان باهظاً على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. فالاقتصاد الكاميروني يعاني من ركود مستمر، بينما تشهد البلاد معدلات بطالة مرتفعة، خصوصاً بين الشباب الذين يفتقرون لفرص العمل. وقوّض الفساد الإداري ثقة المواطنين في المؤسسات، وجعل الحكومة تعتمد على شبكات المحسوبيات بدل الكفاءة. وفي الوقت الذي تتقدم فيه دول إفريقية أخرى نحو التحول الاقتصادي والتكنولوجي، بقيت الكاميرون عالقة في دوامة البيروقراطية والمصالح المتشابكة، غير قادرة على جذب الاستثمارات الكبرى أو إطلاق طاقاتها التنموية.

الانقسام اللغوي.. أزمة الهوية الوطنية

إن أكبر تهديد يواجه الكاميرون اليوم ليس الاقتصاد فحسب، بل هشاشة الوحدة الوطنية. فالبلاد مقسّمة لغوياً وثقافياً بين أغلبية فرنكوفونية وأقلية أنجلوفونية تشعر بالتهميش والإقصاء. ومنذ عام 2017 تحوّلت الأزمة في المناطق الناطقة بالإنجليزية إلى نزاع مسلح قتل وشرّد عشرات الآلاف، بينما دُمرت البنية التحتية للمدارس والمستشفيات، ما جعل الأزمة لا تقتصر على الجانب السياسي بل امتدت لتؤثر على حياة المواطنين اليومية.

الحكومة ترد بالقوة العسكرية، بينما يسعى الانفصاليون للحصول على الاعتراف الدولي بمناطقهم. وقد فشل النظام في تقديم أي رؤية سياسية شاملة لمعالجة جذور الأزمة، مثل توزيع السلطة والموارد والاعتراف بالتعدد اللغوي والثقافي. ويشبه مسار الكاميرون تجارب دول إفريقية أخرى بقيت تحت حكم طويل، مثل غينيا الاستوائية وأوغندا، حيث تخلط الزعامات بين الدولة والشخص، ويصبح أي غياب للزعيم تهديداً حقيقياً لاستقرار البلاد ووحدتها.

زعامة من الأب إلى الابن

مع تراجع ظهور الرئيس العلني ووجوده الطويل في جنيف لأسباب صحية، تتزايد التكهنات حول من سيقود البلاد بعده. يبرز اسم نجله فرانك بيا كخليفة محتمل مدعوم من المقربين من القصر، في سيناريو يذكّر بـ”التوريث الجمهوري” الذي عرفته بعض الدول الإفريقية والعربية. لكن هذا الاحتمال يثير مخاوف من تفجر صراعات داخلية، حيث إن الولاءات السياسية والعسكرية متشابكة، والمجتمع يعيش حالة احتقان اقتصادي واجتماعي متزايد.

يرى محللون أن أي انتقال غير مدروس للسلطة قد يؤدي إلى فوضى سياسية أو مواجهات مسلحة بين مراكز القوى المتنافسة على موارد الدولة. كما يحذرون من أن المؤسسات المدنية قد تنهار أمام أي فراغ قيادي، ما يزيد من مخاطر الصراع على الأرض، ويضع البلاد أمام اختبار حقيقي لقدرتها على إدارة مرحلة ما بعد الزعيم.

فرنسا بين الحذر والخوف من الفراغ

على المستوى الدولي، تواجه فرنسا معضلة حقيقية. فهي تدرك أن استمرار بيا في الحكم بات عبئاً سياسياً وأخلاقياً على صورتها كداعم للديمقراطية، لكنها تخشى أن يؤدي رحيله المفاجئ إلى فراغ يملؤه النفوذ الصيني أو الروسي في إفريقيا الوسطى، ما قد يقوض مصالح باريس التقليدية في المنطقة. لذلك تميل فرنسا إلى سياسة “الاستمرارية الحذرة”، مفضلة الإصلاح التدريجي الذي يضمن انتقالاً منظماً من دون انهيار التوازنات التي بنتها على مدار عقود في مستعمرتها السابقة.

ولأن تعاملاتها التجارية مع دول الساحل الإفريقي لم تعد جيدة كما كانت، حيث فقدت نفوذها بعد سلسلة من الانقلابات، أصبحت باريس أكثر حذراً في التعاطي مع الكاميرون، خصوصاً أن الوضع المحلي هش ومليء بالمتغيرات السياسية والاجتماعية التي قد تسرع أي انهيار محتمل.

مفترق الطرق الأخير

اليوم تقف الكاميرون أمام لحظة مفصلية. حكم بول بيا وفّر استقراراً ظاهرياً لبلد متعدد الأعراق واللغات، لكنه كبّل الدولة وأوقف تطورها السياسي. ومع تقدمه في السن، تقترب البلاد من اختبار حقيقي يحدد إن كانت قادرة على تجديد نفسها بطرق سلمية، أو ستغرق في صراعات ما بعد الزعيم.

لقد كتب بول بيا فصلاً طويلاً من تاريخ إفريقيا الحديثة، فصلاً يمتزج فيه الاستقرار بالقمع والولاء بالخوف والسلطة بالجمود. لكن التاريخ لا يتوقف عند الأفراد، فالبلاد أمام مفترق طرق حاسم، إما أن تستعد لانتقال منظم نحو مرحلة جديدة تتيح بروز جيل سياسي مختلف، أو أن تكرر أخطاء القارة السمراء في انتظار فراغ قد يبتلع ما تبقى من مؤسساتها ووحدتها. ويبقى السؤال الكبير، من سيكتب الفصل التالي في تاريخ الكاميرون، وبأي ثمن؟