تحليل اقتصادي

الفيدرالي الأمريكي يُغيّر المسار: خفض الفائدة.. مرحلة جديدة في السياسة النقدية العالمية

بقلم هاشم نذير
بقلم هاشم نذير

في خطوة لافتة للمرة الثانية هذا العام، خفّض الفيدرالي الأمريكي نطاق سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 25 نقطة أساس، ليُصبح ما بين 3.75 % و4%. مدفوعاً بتراجع مؤشرات سوق العمل وارتفاع حالة عدم اليقين الاقتصادي، إلى جانب تباطؤ بيانات التضخّم نسبياً. وتُعد هذه الخطوة انعطافة في أولويات السياسات النقدية الأمريكية، إذ بدأ التركيز ينتقل من كبح التضخّم إلى دعم التوظيف والنمو الاقتصادي.

منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، استخدم الاحتياطي الفيدرالي أَدوات سعر الفائدة وسياسات التيسير الكمي (أو تشديد السيولة) لتحقيق هدفين رئيسين: رفع معدلات التوظيف وضبط التضخّم عند نحو 2%. 

بعد رفع متواصل للفائدة في 2022–2023 لمكافحة التضخّم، بدأ المركزي الأمريكي مُؤخراً في العودة إلى تخفيف السياسة النقدية. وتشير تحليلات إلى أن السلطات هناك تبحث الآن عن «مستوى محايد» للفائدة، أي المعدل الذي لا يُشجّع النمو الزائد ولا يُثبّطه كثيراً.

وأشار الفيدرالي إلى أن المخاطر على التوظيف قد تزايدت في الأشهر الأخيرة، وأن نموّ الوظائف يُظهر إشارات على التباطؤ، ما دفعه إلى اتخاذ خطوة استباقية ذات صلة. أضف إلى ذلك تراجع معدل التضخّم نسبياً، رغم أنه لا يزال أعلى من هدفه المُعلن، ما يعني أن القرار جاء في سياق متوازن بين النمو ومعدلات التضخّم.

الانقسام داخل الفيدرالي

أظهرت التحليلات وجود انقسام واضح بين أعضاء لجنة السوق المفتوحة للفيدرالي (FOMC)، بين المجموعة الداعمة للخفض الأعمق، المعروفة بـ “الحمائم”، والتي ترى أن مؤشرات الاقتصاد بدأت تضعف بوضوح مع انخفاض ثقة المستهلكين. وبين المجموعة المتحفّظة، أو “الصقور”، وهم من أنصار الصبر، الذين يرون أن التضخّم لا يزال يشكّل خطراً ويجب التريّث كي لا تتأثر مصداقية الفيدرالي، التي استعادها بصعوبة بعد دورة التشديد النقدي في 2022–2023. ويعكس هذا التباين تحولاً في الأولويات: ليس فقط التوظيف أو التضخّم بمفرده، بل كيف يُوازِن البنك بينهما في ظل اقتصاد يُواجه ضغوطاً مزدوجة.

مزايا الخفض

بالنسبة للمستهلكين والمقترضين، يعني خفض الفائدة تكلفة تمويل أقل للقروض المتغيّرة (مثل بعض الرهون العقارية أو بطاقات الائتمان)، مما يعزّز الإنفاق ويخفّف الأعباء الشهرية. ومع توقع المزيد من التخفيضات في المستقبل، ستتجه أسعار الرهن العقاري نحو المزيد من الانخفاض، وبالتالي دفع المزيد من الأمريكيين إلى التفكير في العودة إلى سوق الإسكان بعد الابتعاد عنه لفترة طويلة. 

أما قطاع الأعمال، تُشجع تكاليف الاقتراض الأقل الشركات على الاستثمار وتوسيع الإنتاج، خصوصاً في المجالات الحسّاسة للفائدة مثل الإنشاءات والعقارات. أما للأسواق الماليّة، يدعم التيسير عادة أجواء المخاطرة، ويُنعش أسهم الشركات ويخفض عوائد السندات، ما قد يزيد من قيم الأصول. وللدول الناشئة نصيب من المزايا أيضاً، فحين يُخفّض الفيدرالي الفائدة، يتحسّن تمويل هذه الدول كثيراً، كونها تقترض بالدولار، وتتراجع تكاليف خدمة الديون لديها، ما يُعزز نموّها.

عيوب ومخاطر

تقلل الفائدة المنخفضة العوائد على الودائع والسندات قصيرة المدى، وهو أمر سلبي للمُتقاعدين والمدّخرين والمستثمرين في الدخل السلبي الثابت. كما أن الخفض، إن لم يُحقق أهدافه المنشودة، يؤثر على مصداقية البنك المركزي ويُعيد ضغط التضخّم إلى الارتفاع أو يقلّل من قدرة الفيدرالي على كبحه لاحقاً.

كما تشجع الفائدة المنخفضة لفترات ممتدة على التوسّع الائتماني والمخاطرة الزائدة، ما قد يؤدي إلى فقاعات في الأصول أو اختلالات في الائتمان، وهو ما يهدد بدوره الاستقرار المالي. ناهيك عن ضعف الدولار المحتمل، وتأثير ذلك على تدفقات العملات. وهو أمرٌ يجعل من الواردات أغلى سعراً، ويزيد ضغوط التضخّم من الخارج، خصوصاً على السلع الموجهة للمستهلك الأمريكي.

تأثير قرار خفض الفائدة 25 نقطة أساس:

1_ القطاع العقاري/الإسكان

يؤثر قرار خفض الفائدة بشكل إيجابي على القطاع العقاري والإسكان، حيث يُعزز تشجيع القروض والتمويل الطلب، لكن الفائدة المنخفضة ليست ضماناً إذا كان المعروض العقاري كبيراً أو إذا ظلت فوارق الأقساط مرتفعة.

2_ البنوك والمؤسسات المالية: 

أما القطاع المالي، ربما تقلّ هوامش الربح من الفائدة لدى البنوك، لكنها قد تُعوّض ذلك من حجم أكبر للقروض إذا تحسّن الطلب.

3_ شركات الدين العالي (الاستثمار المغامر):

من المرجح أن يحقق هذا القطاع مكاسب إيجابية مع تراجع تكلفة التمويل، لكن يجب الحذر من أن بيئة الفائدة المنخفضة قد تؤدي إلى تراكم مفرط للديون.

4_ المستهلكون:

سيستفيد بالطبع المستهلكون من أصحاب القروض المتغيّرة أو من يخطّطون للتمويل أو إعادة التمويل، في حين أن أصحاب المدّخرات قد يرون دخلهم يتراجع.

5_ -الأسواق العالمية:

ربما تتراجع الضغوط على الدول المقترِضة بالدولار، لكن ضعف العملة، إن حصل، يمكن أن يزيد تكلفة الواردات ويضغط على عملات الدول وأوضاعها المالية.

من خلال الاكتفاء بخفضٍ محدودٍ قدره 25 نقطة أساس، يرسل الفيدرالي إشارة بأنه يسلك مساراً وسطاً، يعترف بضعف النمو، لكنه لا يندفع نحو سياسة تيسيرية كاملة، في وقت تسود فيه حالة عالية من عدم اليقين. وهنا يكمن التحدي: أن يضبط المسار خلال هذا العام بين أهداف مزدوجة تتنازع فيها ضغوط التوظيف والتضخّم. ستعتمد الرؤية المستقبلية على البيانات القادمة، خاصةً نمو الأجور، والتضخم الأساسي، وتقرير الوظائف الشهري. فإذا أثبتت المؤشرات أن الاقتصاد بحاجة إلى دعم إضافي، فقد يمضي البنك في خفض آخر؛ أما إذا استقرّت الأسعار والوظائف، فسيُفضّل الانتظار والتقييم.