تتشابك خطوط النار من دونباس إلى تخوم الصحراء الكبرى. في رمال مالي القاسية، يبدو أن متمردي الطوارق وجدوا في دروس الحرب الأوكرانية مرجعًا جديدًا لتكتيكاتهم ضد الجيش المالي وحلفائه الروس، في نزاع تتجاوز أصداؤه حدود الجغرافيا الإفريقية إلى خرائط النفوذ العالمية.
نجح الجيش المالي أخيراً، في تحقيق مكاسب ميدانية غير مسبوقة على حساب مقاتلي الطوارق، بفضل الدعم الروسي والتركي، وخصوصاً بعد تزويده بأسلحة متطورة وطائرات مُسيّرة مكّنته من تنفيذ غارات دقيقة وفعّالة استهدفت مواقع جبهة تحرير أزواد، وأسفرت عن مقتل عدد كبير من المقاتلين والقيادات الميدانية.
مثّل استخدام هذه الأسلحة الذكية – التي تعتمدها أيضاً ميليشيات “فاغنر” الروسية في منطقة أزواد – نقطة تحوّل جوهرية في ميزان القوة، إذ وَجد المقاتلون الأزواد أنفسهم عاجزين عن مواجهتها بأسلحتهم التقليدية، ما اضطرهم إلى الانسحاب إلى مناطق أكثر تحصيناً خلف الكثبان الرملية لتجنّب الضربات الجوية. لاحقاً، حاولوا التكيّف مع المُعطيات الجديدة عبر تبنّي أساليب “الحرب غير المتوازية” المستوحاة من التجارب القتالية في أوكرانيا.
تحوّل في التكتيك
في المقابل سعت جبهة تحرير أزواد إلى إيجاد حلول عاجلة حيال الخسائر التي تكبدتها، فبدأت باستخدام طائرات مسيّرة في هجماتها، في محاولة لاستعادة زمام المبادرة. ففي فبراير/شباط الماضي، أعلنت الجبهة إسقاط مروحية ماليّة بواسطة طائرة مُسيّرة، وهو ما نفته السلطات، مُؤكدة أنها “اعترضت طائرة إرهابية وتمكنت من استعادتها”.
كما نفذت الجبهة هجوماً بطائرة مُسيّرة في منطقة “سومبي”، أسفر عن مقتل جنديين وإصابة 13 آخرين، فيما تم توثيق استخدام المُسيّرات في هجمات ضد قوات مالية ومرتزقة “فاغنر” في يوليو/تموز 2024. وفي أكتوبر الجاري، نشر مناصرون للجبهة مقطع فيديو يُظهر طائرة مُسيّرة تحوم فوق مدينة تمبكتو التاريخية، من دون أي ردّ من الأرض، وسط تكهنات بقرب استهداف المدينة.
مُسيّرات FPV: تكتيك جديد مستوحى من أوكرانيا
أدخل الطوارق المُسيّرات من نوع FPV (First Person View، أي الرؤية من منظور الشخص الأول) إلى ساحة المعركة، وهي طائرات صغيرة تُقاد عبر نظارات الواقع الافتراضي، تحمل شحنات متفجرة وتنفذ هجماتها بدقة ضد قوافل الجيش المالي وقواعد المرتزقة الروس. وقد تلقى بعض المقاتلين الطوارق تدريبات في أوكرانيا، وعادوا بخبرات قتالية جديدة، نقلوها إلى الميدان الأزوادي.
تصريحات محمد المولود رمضان، المتحدث باسم الجبهة، تكشف عن تحوّلٍ في طبيعة الصراع من نزاع محلي إلى ساحة تداخل جيوسياسي أوسع. حين يقول: “ما يجمعنا بأوكرانيا هو أننا، مثلها، نواجه الهمجية والإمبريالية الروسية”، فإنه لا يعبّر فقط عن موقف ميداني، بل يؤطّر المعركة ضمن سردية عالمية لمواجهة النفوذ الروسي.
هذا الخطاب يعكس محاولة لإضفاء شرعية دولية على الصراع المحلي، وربطه بمحاور القوى الكبرى، ما يبرز تداخل الأبعاد الإيديولوجية والسياسية في مشهدٍ تتقاطع فيه الحسابات الداخلية مع التوازنات الدولية.
حرب الخداع والمجسمات المطاطية
على غرار تكتيكات القوات الأوكرانية في دونباس، بدأ الثوار باستخدام مجسّمات مطاطية لشاحنات وعربات مدرعة، لتضليل طائرات الاستطلاع وإرباك الخصوم. وفي المقابل، عرضت باماكو في يوليو/تموز الماضي شاحنات قابلة للنفخ، قالت إنها صودرت من مواقع المتمردين الطوارق، في مشهد يلخص تداخل الواقع بالوهم في حروب القرن الحادي والعشرين.
على الرغم من هذه المحاولات، يرى الباحث أولف لايسينغ من مؤسسة “كونراد أديناور” أن الكفّة ما تزال تميل لصالح الجيش المالي وحلفائه الروس، بفضل الطائرات التركية المُسيّرة التي منحتهم “تفوقاً ميدانياً واضحاً”، خصوصاً بعد سقوط معقل كيدال عام 2023. ففي 16 مارس/أذار 2023، استقبل سلاح الجو المالي أكثر من 12 طائرة، بينها طائرات تركية من طراز Bayraktar TB2 UCAV، وطائرات نفاثة تشيكية من نوع L-39 Albatros، إلى جانب دفعة من الطائرات الحربية الروسية من الطراز ذاته.
بين كييف وباماكو: خيوط حرب غير مرئية
لم تعد الحرب في مالي مُجرّد صراع على الرمال، بل أصبحت أيضاً حرب سرديات ودعاية. فبينما تسعى أوكرانيا، وفقاً لبعض المحللين، لإثبات قدرتها على مواجهة روسيا في مسارح بعيدة لإقناع حلفائها الغربيين، تحذّر سلطات باماكو من “تدويل الإرهاب”، متهمة كييف بتقديم دعم استخباراتي وتقني للطوارق، وهي اتهامات تنفيها أوكرانيا والجبهة على حدّ سواء.
يَخلصُ الباحث المغربي رضا اليموري من “مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد” إلى أن “هذا النمط من القتال يتيح للجبهة تجنّب المواجهة المباشرة مع جيش مالي وشريكه الروسي، مع تقليل الخسائر وتعظيم التأثير الرمزي للهجمات”.
حرب جديدة تُخاض بالتكنولوجيا
من دونباس إلى أزواد، تتقاطع الطائرات المسيّرة وتتشابك الروايات. أما الطوارق، الذين حملوا حلم دولتهم الموعودة لعقود، فيبدو أنهم اليوم أكثر إدراكاً بأن الحرب لم تعد تُخاض بالسلاح وحده، بل بالذكاء، والتكنولوجيا، وبالموقع الذي يتم اختياره في خريطة التحالفات المتغيرة.






