تحليل سياسي

الانتخابات البرلمانية العراقية: سباق على السلطة تحت ظلال السلاح والاغتيالات

بقلم يوسف موسى
بقلم يوسف موسى

في تطور خطير يُعيد شبح العنف السياسي في العراق إلى الواجهة، أُغتيل فجر الأربعاء 15 أكتوبر / تشرين الأول صفاء المشهداني، عضو مجلس محافظة بغداد والمرشح عن تحالف السيادة، إثر انفجار عبوة ناسفة استهدفت سيارته. الاغتيال يُوجّه رسالة مفادها ترهيب الخصوم، ومنع المستقلين والمرشحين الإصلاحيين من خوض السباق الانتخابي بحرية.

قبل أسابيع من فتح صناديق الاقتراع في العراق، تتشابك خيوط السياسة والأمن والولاءات الإقليمية في مشهد لا يقل تعقيداً عن أي مرحلة سابقة. وبينما تستعد القوى التقليدية لتجديد نفوذها، يَرزح الناشطون والمستقلون تحت تهديد الاغتيال، فيما يقف الناخب العراقي بين خوفٍ من العنف وأملٍ ضئيل في التغيير.

الانتخابات البرلمانية العراقية المقررة في 11 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ليست مُجرّد استحقاق ديمقراطي، بل اختبار لمدى قدرة البلاد على تجاوز نفوذ السلاح والطائفية نحو دولة مؤسسات حقيقية. وبين الخوف من التزوير والأمل في التغيير، يقف العراق اليوم أمام مفترق طرق حاسم، إما ترسيخ السيادة والعدالة، أو العودة إلى دائرة الجمود والصراع.

على الرغم من قتامة المشهد، يرى مراقبون أن الانتخابات المقبلة قد تُمثل فرصة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، شرط أن تتم في أجواء آمنة وشفافة. وهنا تحاول القوى المستقلة والشابة، التي برزت بعد احتجاجات تشرين، فرض حضورها عبر خطاب وطني عابر للطوائف، فيما تضغط الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لضمان انتخابات حرة بعيداً عن سطوة السلاح والمال السياسي.

الاغتيالات السياسية: تهديد صامت للديمقراطية

عاد ملف الاغتيالات بقوة إلى الواجهة قُبيل الانتخابات، مستهدفاً ناشطين وصحفيين وشخصيات إصلاحية. لتثير هذه العمليات، التي غالباً ما تُقيّد ضد مجهول، مخاوف جدية من استخدام العنف كأداة لتصفية الخصوم وإعادة ترتيب التوازنات الانتخابية.
ورغم وعود الحكومة بكشف الجُناة، فإن النتائج شبه غائبة، ما يُضعف ثقة الشارع في نزاهة العملية الديمقراطية وقدرة الدولة على احتكار السلاح.

في تطور خطير يُعيد شبح العنف السياسي إلى الواجهة، أُغتيل فجر الأربعاء 15 أكتوبر صفاء المشهداني، عضو مجلس محافظة بغداد والمرشح عن “تحالف السيادة”، إثر انفجار عبوة ناسفة استهدفت سيارته في قضاء الطارمية شمال العاصمة، ما أسفر أيضاً عن إصابة عدد من مرافقيه. وقد فتحت السلطات تحقيقاً عاجلاً وسط إدانات سياسية واسعة ومطالبات دولية بكشف الجناة.

يأتي هذا الاغتيال ليكشف هشاشة المشهد الأمني والسياسي على حدّ سواء. المشهداني، الذي عُرف بمواقفه المُنتقدة لهيمنة الفصائل المسلحة في مناطق حزام بغداد، كان من الأصوات السنية الداعية لتعزيز دور الدولة وتقليص نفوذ السلاح خارج المؤسسات الرسمية. ومن الواضح أن اغتياله في هذا التوقيت يُوجّه رسالة مفادها ترهيب الخصوم، ومنع المستقلين والمرشحين الإصلاحيين من خوض السباق الانتخابي بحرية.

سياسياً، يُتوقع أن يُعمّق الحادث انعدام الثقة بين القوى المتنافسة، ويزيد من تماسك التحالفات المذهبية التقليدية خشية التصعيد. كما أنه يمنح القوى المسلحة مساحة إضافية لفرض خطاب “الحماية الذاتية”، ما يضع الحكومة أمام تحدٍّ مباشر يتلخص في إثبات قدرتها على تأمين الانتخابات، ومنع تحوّل الحملة الانتخابية إلى ساحة تصفيات.

اغتيال المشهداني ليس حادثاً معزولاً، بل حلقة في سلسلة طويلة من العنف الانتخابي الذي يُقوّض مسار التحول الديمقراطي في العراق. وإذا لم تتمكن السلطات من تقديم نتائج واضحة وسريعة للتحقيق، فإن الرسالة الأخطر ستبقى عالقة، مفادها أن السلاح ما زال أقوى من الصوت الانتخابي، وأن الطريق إلى صناديق الاقتراع قد يمرّ مُجدداً عبر دوامة الدم. لأن الاغتيالات لا تُعبّر فقط عن خلل أمني، بل عن أزمة في احتكار الدولة للعنف، إذ تحولت بعض الفصائل المسلحة إلى لاعب سياسي وأمني، في آن واحد، يُقرّر من يُشارك ومن يُقصى.

تحالفات غير مستقرة ومشهد مفتوح على المفاجآت

لا يزال التيار الصدري، الذي حاز الأغلبية في البرلمان السابق، مُتمسكاً بموقفه القاضي بمقاطعة الانتخابات المقبلة، الأمر الذي يمنح الإطار التنسيقي المقرّب من طهران فرصة أوسع لترسيخ نفوذه داخل مجلس النواب القادم.

وعلى الرغم من انسحابه الرسمي من العملية السياسية، يواصل زعيم التيار، مقتدى الصدر، إثارة الجدل حول احتمال عودته المُفاجِئة إلى المشهد، خصوصاً بعدما نصَبَ أنصارُه خيمة في ساحة التحرير، وسط بغداد، في خطوة رمزية أعادت التذكير بالحراك الشعبي الذي قاد موجات الاحتجاج السابقة.

ويرى مراقبون أن احتمال إعادة فتح التسجيل يبقى قائماً على الرغم من إغلاق باب الترشح من قبل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، ما قد يتيح للصدر العودة في اللحظة الأخيرة، في حال قرّر قلب موازين اللعبة السياسية مجدداً.

السنّة: حضور سياسي بلا وحدة تنظيمية

بدوره، يسعى التحالف السنّي الموحّد إلى إعادة ترتيب صفوفه بعد سلسلة من الانقسامات التي أضعفت حضوره في المشهد السياسي، في محاولة لاستعادة ثقله وتأثيره في البرلمان المقبل. في المقابل، يتبنّى الأكراد نهجاً أكثر حذراً وبراغماتية في التعامل مع بغداد، مدفوعين برغبتهم في صون مكاسبهم السياسية والاقتصادية والحفاظ على نفوذهم في إقليم كردستان والمناطق المتنازع عليها، وعلى رأسها كركوك وسنجار.

وبينما يسعى السنّة إلى استعادة ثقلهم السياسي بعد تراجعهم في الدورات السابقة، لا يزال المكوّن السني يعاني من تشظي القوى والزعامات بين كُتل متنافسة على النفوذ في المحافظات الغربية والشمالية. وبينما يسعى بعض القادة إلى التحالف مع الإطار التنسيقي، يُفضل آخرون الاقتراب من القوى الكردية أو تبنّي خطاب إصلاحي مُستقل. هذا التباين يُهدد بتقليص وزنهم البرلماني، ما لم ينجحوا في بلورة رؤية موحدة لما بعد الانتخابات.

الأكراد: حسابات محلية ومساومات مركزية

من جهتهم، يحاول الأكراد التوفيق بين خلافاتهم الداخلية والحفاظ على دورهم المرجّح في تشكيل الحكومة المقبلة. غير أن غياب الثقة المتبادلة يجعل الشراكة بينهم وبين التحالف السنّي حذرة ومحدودة الأفق.

في إقليم كردستان، تتواصل المنافسة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وسط أزمة ثقة حول تقاسم السلطة والعائدات النفطية. وتُمثّل الانتخابات فرصة لتعزيز تمثيل الأكراد في الحكومة الاتحادية، لكن الخلافات الداخلية والصراع المستمر على كركوك يُهدّدان وحدة موقفهم في بغداد.

الأقليات: حضور رمزي ومعركة بقاء

 تُواجه الأقليات من مسيحيين وإيزيديين وتركمان تحديات وجودية تتجاوز البعد السياسي، إذ يُعانون من تهميش مُزمن وضعف الحماية الأمنية في مناطقهم. وبالنسبة إليهم، تشكل الانتخابات معركة بقاء أكثر منها تنافساً انتخابياً.

النفوذ الإيراني: بين تراجع الشعبية وثبات الأدوات

على الرغم من تراجع الحضور الشعبي لإيران في الشارع العراقي، منذ احتجاجات تشرين 2019، لا تزال طهران تُمارس تأثيراً فعّالاً عبر قوى سياسية وفصائل مسلّحة مُنضوية تحت ما يُسمى بـ “الإطار التنسيقي”. ومع ذلك، يُواجه هذا النفوذ تحدياً مُتزايداً من داخل المُكوّن الشيعي نفسه، خصوصاً من المرجعية الدينية في النجف التي تُشدّد على ضرورة ترسيخ السيادة الوطنية واستقلال القرار العراقي. وتُشكّل الانتخابات المقبلة اختباراً حاسماً لقدرة القوى الوطنية على مُوازنة العلاقة مع طهران من دون الانزلاق إلى صدام أو ارتهان سياسي.

ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية، يتعيّن على العراق الاختيار بين استمرار النفوذ الطائفي والفصائلي، أو الانطلاق نحو دولة مؤسساتية مُستقرة. وتبقى المشاركة الشعبية والقدرة على إجراء انتخابات نزيهة وشفافة عوامل حاسمة لتحديد مصير البلاد السياسي في المرحلة المقبلة، وسط تحديات أمنية واقتصادية وسياسية مُعقدة، تجعل من هذا الاستحقاق اختباراً حقيقياً لنضج الديمقراطية العراقية وقدرة القوى الوطنية على حماية صناديق الاقتراع.