مساء الـ 28 أكتوبر/تشرين الأول 2025 عاد صدى الانفجارات ليملأ أجواء قطاع غزة بعد أسبوعين فقط من توقيع اتفاق شرم الشيخ للسلام. بأمر من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتنفيذ “عمليات قوية وفورية” أنهى عملياً هدنة كانت تُعدّ خطوة أولى نحو إنهاء حربٍ أنهكت الجميع.
بينما كانت القاهرة وواشنطن والدوحة تراهن على أن الاتفاق سيُمهّد لتسوية سياسية طويلة الأمد، بدا المشهد على الأرض وكأن الزمن عاد إلى نقطة الصفر.
ما حدث في ذلك المساء لم يكن مجرّد ردّ عسكري، بل لحظة كاشفة لمدى هشاشة التفاهمات الإقليمية، وللسؤال الأعمق الذي يلاحق كل هدنة في الشرق الأوسط: هل يمكن لسلامٍ بلا ضمانات أن يصمد؟
هدنة حافة الشك
جاء اتفاق شرم الشيخ الذي أُعلن عنه في منتصف أكتوبر/تشرين الأول بعد مفاوضات مُضنية جمعت وفوداً إسرائيلية وفلسطينية بوساطة مصرية–قطرية وتنسيق أميركي. حمل الاتفاق في ظاهره روح التسوية، لكنه في جوهره لم يذهب أبعد من تثبيت هدنة هشة، غابت عنه الآليات التنفيذية، وتُركت قضايا حسّاسة كملف سلاح حماس ومستقبل إدارة غزة إلى مراحل لاحقة غير محددة، ما جعل بنوده أشبه بوعود مؤجلة أكثر منها التزامات ملزمة.
وعلى الرغم من الأجواء الإيجابية التي رافقت التوقيع، كان واضحاً أن الاتفاق يعيش على توازنٍ هشّ بين ضغط الواقع الميداني، ورغبة الوسطاء في تثبيت إنجاز دبلوماسي سريع.
بدأ الانهيار من مدينة رفح، حين أعلنت إسرائيل أن إحدى وحداتها العسكرية تعرضت لإطلاق نار أسفر عن مقتل جندي وإصابة آخرين. وبعد ساعات، تسلّمت تل أبيب عبر الوسطاء أجزاء من جثة قالت حركة حماس إنها تعود لأسير إسرائيلي وفق اتفاق التبادل الأخير. غير أنّ الفحوص الإسرائيلية بيّنت أن الرفات التي استلمتها ليست لأسير جديد، بل لبقايا رهينة سبق أن أُعيد جثمانه في وقت سابق ودُفن بالفعل داخل إسرائيل، وهو ما اعتُبر في تل أبيب دليلاً على خرقٍ مُتعمّد لبنود الاتفاق وإهانةً رمزية للجانب الإسرائيلي.
بالنسبة للإسرائيليين، كان ذلك خرقاً مُهيناً للاتفاق، واستغلّ نتنياهو الغضب الشعبي لتبرير ردّ عسكري واسع. أما حماس، فنفت نية الخداع، مؤكدة أن التسليم جرى استناداً إلى بيانات ميدانية أولية، وأن إسرائيل هي من خرقت الهدنة أولاً عبر استمرار إغلاق المعابر وتأخير المساعدات الإنسانية.
هكذا تحوّل سوء تقدير واحد إلى ذريعةٍ لعودة النار، وظهرت حقيقة الاتفاق كهدنة بلا ضوابط ولا آليات تحقق.
اتفاق هشّ في بنيةٍ مضطربة
تكشف أزمة رفح أن الخلل في اتفاق شرم الشيخ لم يكن في الحدث ذاته، بل في بنيته العميقة. الاتفاق لم يتضمّن لجنة مراقبة مشتركة لتقصي الخروقات، ولم يُنشئ إطاراً تنفيذياً واضحاً يُلزم الأطراف. كما أنه أجّل الملفات الجوهرية إلى “مرحلة ثانية” لم يحدَّد لها جدول زمني، وهو ما جعل الاتفاق في واقع الأمر مسرحاً للتجاذبات أكثر منه مظلةً للاستقرار.
إن الاعتماد الكامل على الوسطاء — خصوصاً مصر وقطر — أضعف قدرة الاتفاق على الصمود، إذ إن أي تراجع في تأثير هؤلاء الوسطاء كفيل بإفراغ الوثيقة من مضمونها. والأخطر أن الطرفين ما زالا يحتفظان بحرية الحركة العسكرية على الأرض، ما يجعل وقف إطلاق النار إسماً من دون مضمون.
التفاعلات الإقليمية والدولية
في أعقاب التصعيد، تحركت القاهرة بسرعة مُطالبةً الطرفين بضبط النفس وتجميد العمليات. وأصدرت الخارجية المصرية بياناً حذّرت فيه من “عودة المنطقة إلى نقطة الصفر” ودعت إلى فتح تحقيق مشترك. أما واشنطن، فرأت أن انهيار الهدنة يهدد الجهود الأمريكية لإطلاق عملية سياسية أوسع، بينما طالبت جامعة الدول العربية مجلس الأمن بتحرك فوري “لمنع تقويض الجهود الإقليمية”.
إسرائيل، من جهتها، ربطت أي عودة للاتفاق بالحصول على ضمانات أمنية واضحة، فيما أكدت حماس استعدادها للعودة إلى التفاهمات إذا توقفت الهجمات وأُعيد فتح المعابر. بين هذين الموقفين المتناقضين، وجد الوسطاء أنفسهم أمام مأزق سياسي حقيقي: كيف يحافظون على مصداقيتهم في ظل انعدام أدوات الضغط الفعلية على الأطراف؟
ضغط السياسة وحسابات القوة
يخوض نتنياهو معركة داخلية شرسة في إسرائيل، حيث تتهمه المعارضة بأنه منح حماس “مهلة ذهبية لإعادة بناء قوتها”. ويواجه أيضاً ضغوطاً من عائلات الأسرى التي ترى أن الحكومة فشلت في ضمان استعادة أبنائها. أما داخل غزة، تتعالى الأصوات الناقمة على تدهور الوضع الإنساني وانسداد أفق الإعمار، ما يضع قيادة الحركة تحت ضغط شعبي متزايد.
في المقابل، يجد الوسطاء الإقليميون أنفسهم أمام مسؤولية مضاعفة، إن فشل اتفاق شرم الشيخ لن يقتصر على غزة، بل سوف يمسّ صورة الدبلوماسية العربية نفسها، وخصوصاً الدورين المصري والقطري اللذين شكلا طوال العامين الماضيين محور الوساطة بين أطراف الصراع.
بين الانهيار والإنقاذ
تتراوح السيناريوهات المقبلة بين ثلاثة مسارات رئيسة.
- أولاً: استمرار التصعيد العسكري ليتحول إلى مواجهة مفتوحة تُسقط الاتفاق بالكامل، وتعيد الوضع إلى مرحلة ما قبل الهدنة.
- ثانياً: تتوصل الأطراف إلى تهدئة موضعية بوساطة مصرية–قطرية تُبقي على وقف لإطلاق نار هشّ، لكنه خالٍ من مضمون سياسي أو إنساني فعلي.
- ثالثاً: يقوم على تدخل سريع للوسطاء لتشكيل لجنة تحقيق محايدة واستئناف العمل ببنود الاتفاق تدريجياً، بما في ذلك فتح المعابر وتفعيل برامج الإعمار وتبادل الأسرى. وهو السيناريو الأكثر تفاؤلاً.
لكن أيّاً من هذه السيناريوهات لن ينجح ما لم تُرفق الهدنة بضمانات دولية واضحة وآلية تنفيذية قابلة للمحاسبة، لأن غياب الرقابة والالتزام هو ما أوصل الاتفاق إلى هذه الحافة.
يبدو أن اتفاق شرم الشيخ لم يكن اتفاقاً نهائياً بقدر ما كان هدنة مؤقتة بين حربين. سقوطه المحتمل يحمل تداعياتٍ أبعد من حدود غزة، فهو اختبار لمجمل الهندسة الإقليمية التي تحاول مصر والولايات المتحدة ترسيخها بوصفها إطاراً جديداً لتوازن القوى في الشرق الأوسط. إن فشل هذا الاتفاق لن يعني انهيار هدنة فحسب، بل اهتزاز الثقة بإمكانية تحقيق أي تسوية سياسية شاملة في المنطقة.
ما جرى في رفح لم يكن حادثة عابرة، بل جرس إنذار بأنّ السلام من دون ضمانات لا يصمد، وأنّ الهدنة من دون عدالة لا تتحول إلى استقرار. وبين هدير الطائرات الإسرائيلية وصدى بيانات حماس، يقف اتفاق شرم الشيخ على الحافة، نصف خطوة تفصله عن الحرب ونصف أمل يربطه بالسلام.








